الأعمدةشيئ للوطن

أطفال السودان: الجرح المنسي في “عيد الطفولة”

شيء للوطن
م.صلاح غريبة
Ghariba2013@gmail.com

بينما يكتسي العالم باللون الأزرق احتفالاً بيوم الطفل العالمي، وتتغنّى المنظمات الدولية باتفاقية حقوق الطفل وشعارات “لكل طفل، كل حق”، يقف العالم صامتاً، أو ربما متواطئاً بالصمت، أمام واحدة من أشرس الحروب التي تشن – فعلياً – ضد البراءة. في هذا اليوم، لا يملك الطفل السوداني بالونات ليعلقها، ولا مدارس ليزين جدرانها، بل يملك ذاكرة مثقلة بأصوات القذائف، وعيوناً شاخصة نحو طريق الهروب المجهول.
إن ما يحدث في السودان ليس مجرد صراع سياسي أو نزاع على السلطة؛ إنها حرب إبادة لمستقبل أمة كاملة ممثلاً في أطفالها. الأرقام فظيعة ومرعبة، والقصص الإنسانية أشد رعباً. نحن أمام جيل كامل يتعرض لـ “اغتيال ممنهج للطفولة”، حيث تحول ملايين الأطفال بين ليلة وضحاها من طلاب يحلمون بالمستقبل إلى نازحين يبحثون عن كسرة خبز أو شربة ماء غير ملوثة.
إن مأساة الطفل السوداني مركبة ومعقدة. في الداخل، تحصد آلة الحرب الأرواح بلا هوادة، ومن ينجو من الرصاص لا ينجو من الجوع والمرض. لقد أغلقت المدارس أبوابها، وتحولت بعض الفصول الدراسية إلى ملاجئ مكتظة أو ثكنات عسكرية. هذا الانقطاع عن التعليم ليس مجرد “توقف مؤقت”، بل هو فجوة معرفية ونفسية ستدفع السودان ثمنها لعقود قادمة. الأخطر من ذلك هو الانتهاكات المباشرة؛ من التجنيد القسري للأطفال والزج بهم في أتون المعارك، إلى العنف الجسدي والنفسي الذي يترك ندوباً لا تمحى.
حين تضيق الأرض بما رحبت، يصبح الخيار الوحيد هو الرحيل. وهنا تبدأ فصول مأساة أخرى تسمى “اللجوء”. رحلة العبور إلى دول الجوار، وخاصة الرحلة الشاقة نحو الشمال إلى مصر، هي رحلة محفوفة بالمخاطر. يسير الأطفال مئات الكيلومترات، يشهدون الموت والجثث الملقاة على الطرقات، ويفقدون في الزحام أفراداً من عائلاتهم، ليحملوا ثقل الصدمة النفسية (PTSD) في حقائبهم الصغيرة الفارغة إلا من الألم.
وصولاً إلى مصر، وبرغم الأمان النسبي من أصوات المدافع، يواجه الطفل السوداني اللاجئ واقعاً جديداً شديد القسوة. إن تكدس ملايين السودانيين الفارين من ويلات الحرب وضع ضغطاً هائلاً ليس فقط على البنية التحتية للدولة المستضيفة، بل على الأسر السودانية نفسها التي فقدت مصادر دخلها ومدخراتها.
الخطر الذي يتهدد الأطفال السودانيين في مصر اليوم ليس الرصاص، بل هو “خطر التهميش والضياع”، فالكثير من الأطفال خارج المنظومة التعليمية لعدم قدرة المدارس (مدارس الصداقة أو المراكز التعليمية أو المجتمعية) على استيعاب هذه الأعداد الهائلة، أو لعدم قدرة الأهل على دفع الرسوم. طفل بلا مدرسة هو طفل معرض للعمالة المبكرة، والاستغلال، والانحراف.
يعيش هؤلاء الأطفال في شقق ضيقة، مكدسة بعائلات متعددة، يحملون ذكريات الحرب دون أي دعم نفسي متخصص. إنهم قنابل موقوتة من الحزن والغضب المكبوت، وتجبر النواحي الاقتصادية العديد من الأطفال على ترك طفولتهم والعمل في ظروف غير آمنة لإعالة أسرهم، مما يعرضهم لانتهاكات حقوقية جسيمة في سوق العمل غير الرسمي.
في يوم الطفل العالمي، يبدو الاحتفال نفاقاً صريحاً إذا لم يقترن بتحرك عاجل لإنقاذ أطفال السودان. إن العالم الذي انتفض لأزمات أخرى، يقف اليوم متفرجاً ببرود أمام هذه الكارثة. إن حماية هؤلاء الأطفال، سواء النازحين في الداخل أو اللاجئين في مصر ودول الجوار، ليست “منحة” أو “عملاً خيرياً”، بل هي واجب قانوني وأخلاقي ملزم للمجتمع الدولي.
المطلوب ليس فقط بطانيات وكراتين غذائية – رغم أهميتها – بل المطلوب هو “طوق نجاة لمستقبلهم”: دعم دولي ضخم لملف تعليم الأطفال اللاجئين في مصر والسودان، برامج دعم نفسي عاجلة، وضغط سياسي لوقف الحرب التي تأكل الأخضر واليابس.
ختاماً، إن الطفل السوداني الذي ينام الليلة على رصيف الغربة أو تحت دوي المدافع، هو الشاهد الحي على فشل إنسانيتنا. فلا تحدثونا عن حقوق الطفل، قبل أن تعيدوا لأطفال السودان حقهم في الحياة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى