
إنهيار جدار المناعة
من أعلى المنصة
ياسر الفادني
لم تكن السنوات الماضية سوى مساحة تمددت فيها أبوظبي مطمئنة إلى أنها فوق المساءلة، وأن شبكة التحالفات والصفقات التي نسجتها في العلن والظل ستكفل لها حصانة دبلوماسية تبعد عنها أي عاصفة دولية، لكن الأحداث المتراكمة تكشف اليوم أن هذه الحصانة الموهومة بدأت تتصدّع، وأن حملة ضغط متنامية سياسية وإعلامية وقانونية تتشكل حول (دويلة الشر) ، بعد سنوات ظنت فيها أنها بمنأى عن العقاب
التحركات الأخيرة في الاتحاد الأوروبي تعكس لأول مرة استعداداً ملموساً لربط الامتيازات التجارية بسلوك أبوظبي الإقليمي، إعادة النظر في إتفاقية التجارة على خلفية التقارير المتعلقة بنقل أسلحة إلى الميليشيا في السودان ليست مجرد خطوة إجرائية، بل مؤشر على أن الغطاء الدبلوماسي السابق بدأ ينحسر، لم يعد ممكناً تجاهل الدور التخريبي في الحرب السودانية، ولا الإستمرار في التعامل التجاري الطبيعي مع طرف تتصاعد ضده الاتهامات بدعم ميليشيا تزعزع استقرار بلد بأكمله
وفي موازاة ذلك، تتوالى الوقائع من داخل السودان نفسه. فالمصادر القادمة من الطينة عند الحدود مع تشاد تُظهر واقعاً ميدانياً يؤكد عزلة المليشيا المدعومة إماراتياً، حيث تُمنع حركة الشاحنات من دخول مناطقها للأسبوع الثالث على التوالي، هذه التطورات ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل إشارات إلى أن خطوط الإمداد والتأثير التي إعتمدت عليها أبوظبي في دارفور بدأت تتعرّض للانكماش والرقابة، وأن المشهد لم يعد يعمل لصالحها كما كان من قبل
ثم جاءت صدمة إسطنبول، التي كشفت عن خطوط توتر لم تُدفن قط بين أنقرة وأبوظبي، فعلى الرغم من محاولات التهدئة وإعادة بناء العلاقات عبر التجارة والاستثمارات، فإن توقيف ثلاثة مشتبه بهم بتهمة جمع معلومات حساسة عن مسؤولين أتراك أعاد إلى الواجهة أسئلة قديمة عن النشاط الاستخباراتي الإماراتي داخل تركيا، ورغم أن السلطات التركية سارعت إلى الضغط على الإعلام لإزالة الإشارات المباشرة إلى أبوظبي، فإن التراجع الرسمي لا يلغي حقيقة أن الشكوك في عمق المؤسسة الأمنية التركية تجاه الدور الإماراتي ليست وليدة اللحظة
السياق الإقليمي يزيد هذه الصورة وضوحاً، فأنقرة تتهم الإمارات منذ سنوات بإدارة عمليات تستهدف نفوذها، من التمويل المزعوم لأطراف مرتبطة بمحاولة الانقلاب، إلى محاولة تقويض الدور التركي في ليبيا وسوريا والسودان
كل هذه الوقائع، حين تُقرأ معاً، ترسم لوحة متكاملة: إنهيار تدريجي لخطاب (المناعة) الذي بنت عليه أبوظبي مشروعها الإقليمي، العواصم التي كانت تتجاهل الملفات الحساسة بدأت تنطق، والوقائع الأمنية تتسرب إلى العلن، وحلفاء الأمس يرفعون مستوى التحفّظ والرقابة، لم يعد بإمكان الإمارات الاستمرار في لعب دور (القوة التي لا تُحاسب) بينما تتراكم حولها ملفات من السودان إلى تركيا، مروراً بالقرن الأفريقي وحتى السواحل الليبية
إني من منصتي أنظر ….حيث أري….. لقد انفتح الملف، و إنكشفت السيرة، وبدأت حملات الضغط الدولية تتخذ شكلاً أكثر وضوحاً وصلابة، وما كان في الماضي يُناقش همساً صار اليوم مادة للتقارير والقرارات المحتملة ، لم تعد أبوظبي قادرة على الاختباء خلف الاستثمارات الضخمة أو الواجهات البراقة، فالمعادلة الإقليمية تغيّرت، ومن اعتقد أنه محصّن من العواقب يكتشف الآن أن الحساب يمكن أن يُفتح في أي لحظة، وأن العالم لم يعد كما كان قبل سنوات قليلة فقط.