
الأمير عبد الرحمن المهدي يعقب على كلمة القائد عقار
بسم الله الرحمن الرحيم
تعقيب على ورقة القائد مالك عقار:
إضاءة على سيرورة الحركة الشعبية: التطورات والتحولات
بورتسودان في 18 أكتوبر 2025م
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد-
أحي الحضور الكريم والقائد الحبيب مالك عقار وأقول:
يحمد للحبيب مالك الجدية في مخاطبة قضايا الوطن عبر نافذته الخاصة: الحركة الشعبية لتحرير السودان، بل مسار قضايا التهميش منذ بدايتها.. وقد أشار إلى تاريخ قديم (1924م) باعتباره أحد محطات الفرص المضيعة. ولكن الناظر لتاريخ السودان يرى أن الأمر قد يكون أبعد، ولعل ما حدث أثناء المهدية يشكل فرصة مضيعة، فقد تضافر كل المهمشين من نظام الحكم العثماني آنذاك في الثورة، ولكن الخلافات برزت من جديد في فترة الدولة ففتت في عضدها وجعلتها لقمة سائغة للتكالب الأجنبي على الدولة السودانية الحرة الوليدة.
إن هذه الورقة المهمة تضيء على معان مهمة في حياتنا السياسية أشير هنا إلى بعضها:
الأول: أنه وبرغم هذه الفرص المضيعة، وبرغم ما ذكره من فشل النخب السياسية المتعاقبة في إدارة التنوع وتحقيق نظام العدالة والديمقراطية والتنمية، فقد وجدت بؤر مضيئة وسط ظلام الغبن، وقد أشار مثلا لمقولة الإمام عبد الرحمن المهدي وحثه للساسة على إعطاء الجنوبيين الفيدرالية، كما اشار لاتفاقية أديس ابابا 1972م وقد استندت إلى تحضيرات الديمقراطية الثانية: مؤتمر المائدة المستديرة 1965م ولجنة الاثني عشر ومؤتمر جميع الأحزاب السودانية 1966م، وأطيح بثمرها بسبب تغول النظام الشمولي على الحقوق الممنوحة بواسطة الاتفاقية. وقد كان من ضمن البؤر المضيئة التي أغفلتها الورقة برغم دقة توثيقها للمسيرة إعلان باريس في أغسطس 2014م الذي أبرمته الجبهة الثورية مع حزب الأمة بقيادة الإمام الصادق المهدي، وكان فتحا في العلاقة بين الجبهة الثورية والقوى المدنية إذ فتح الباب لتحالف نداء السودان الذي ضم مبادرة المجتمع المدني وقوى الإجماع الوطني لقوى إعلان باريس في ديسمبر 2014م، وكان رأس الرمح في توحيد القوى السياسية والمسلحة، تم تتويجه عشية الثورة بتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير.
الثاني: أن الأخطاء ليست من جانب ساسة المركز فقط، بل ساهم ساسة المناطق المهمشة أحيانا في تأجيج الصراع والانقسامات ولم يراعوا حتى حقوق أهلهم أحيانا فأزهقوا في الصراعات بينهم الأرواح بدم بارد، أو كما قال. وهذه النقطة يمكن الانطلاق منها لبحث دور النخب في السودان بشكل عام، سواء أكانت نخب مركز أم هامش، والمدى الذي استغرقته في الصراعات وإقصاء بعضها، بصورة كثيرا ما ابتعدت بها عن المصلحة الوطنية. ولن يرسو السودان إلى بر استقرار وسلام وديمقراطية مستدامة إذا لم يحل إشكالية الاستقطاب السياسي والمعارك المستمرة بين النخب. والحل في الوصول إلى صيغة نظام توافقي على غرار ما فعلت الدول التي تعاني من استقطابات على أسس سياسية أو مذهبية أو إثنية أو طائفية، وهي دعوة طالب بها والدنا الراحل المقيم منذ الستينات وظل دائما ينادي بها وإن لم يجد أذنا صاغية أحيانا حتى داخل حزبه. إن أي عقد جديد للسودان ينبغي أن يستند إلى خطة (الدولة التوافقية) التي يجد الجميع أنفسهم فيها.
الثالث: الإشارة للبعد الأجنبي في الوصول لاتفاقيات السلام وكيف كان هذا الدور الأجنبي مضرا أثناء اتفاقية نفيفاشا 2005م وتسبب قبل الساسة الوطنيين في نقض الاتفاقيات. وإشارته بوضوح أن السودان يقع في مدار تآمر أجنبي بقصد تمزيقه وإضعافه، وهذا أبرز ما يكون بعد حرب أبريل 2023م. أما سوء ذلك الدور والمستقبل المظلم الذي ساق اليه البلاد في الماضي فلم يكن بالوضوح الحالي، وإن لم يفت على حكيم الأمة، الإمام الحقاني عليه الرضوان الإشارة لذلك بوضوح، فقد أصدر كتاب: اتفاقية السلام الشامل 2005م والدستور الانتقالي 2005 في الميزان في حينها وقال بوضوح إن الاتفاقية لن تؤدي الى وحدة ولا سلام ولا ديمقراطية. وربما كان غرض الحركة الشعبية يومها الوصول لسلام ووحدة وديمقراطية، ولكنها بإعراضها عن ذلك النصح فتحت الباب للتلاعب بتلك الأهداف العزيزة حينما لم تستجب لمطالبه بضرورة إشراك القوى السياسية الأخرى وفق مبادرة الأمة للتعاهد الوطني: لتوضيح ما غمض في الاتفاقية، ولإكمال نواقصها ولتصحيح الأخطاء، وللتحكيم في نقاط الخلاف. ومن النواقص التركيز على قسمة السلطة والثروة النفطية، وإهمال واحد من أهم أسباب الغباين في السودان وهو الملف الثقافي وكان الإمام اقترح ضرورة النص على بروتوكول ثقافي، كما أنه اشار الى ان بروتوكول قسمة الثروة بتركيزه على النفط اغفل موارد مهمة وعلى رأسها المياه مع تعقيد أمرها المتعدي لدول حوض النيل. وهكذا.
الرابع: أن الانقسامات الإثنية داخل الجنوب وغيره من المناطق المهمشة لا تقل سوءا وضررا عن المظالم الجهوية والتهميش، وهي التي تحيل الحركات الثورية إلى آلة لتفريخ الظلم فيما بينها، وتكريس الانقسامات الأميبية المستمرة. وهي نتاج طبيعي لسيادة منطق القوة في الدولة، وفي التكوينات الناشئة تحت مظلتها حتى ولو كانت مقاومة لاتجاهها. ولا بد من كسر هذه الحلقة الشريرة من الإقصاء والتسلط الذي ينزل من القمة للقاعدة والعكس.
الخامس: أن للحركة الشعبية تجربة ثرة تنظيمية وسياسية، ما فتئت تبحثها، والورقة الحالية إضافة لأوراق سابقة وأشار له القائد ضمن المراجع ربما تشكل فقط جانبا من الحوار الصحي المطلوب لتحديد أوجه النجاح والفشل في التجربة وإمكانية التطوير المستقبلي. ومثل هذه الحوارات ينبغي أن تسود كل التكوينات السياسية وحركات الكفاح المسلح، للخروج بأهم الدروس المستفادة من أجل التطوير وإصلاح المسير وضرب الأمثال للأجيال القادمة، وللتاريخ.
السادس: أن هذه المسيرة لديها ما تقوله في التحدي الذي يجابه أمتنا اليوم، وهي كيفية هزيمة التكالب الأجنبي الحالي باستخدام الدعم السريع مخلب قط لتمزيق السودان والتحكم في مقدراته. فالبناء على اتفاقية جوبا للسلام 2020م وضرورة الانطلاق من إيجابياتها مهم، وينبغي أن يستنير بدروس التجربة وقد أشار القائد مالك لبعض جوانب القصور في الاتفاقية، وليس كل النقد الذي وجه لها من الباب العنصري وغير المقدر لأحقية حركات الكفاح المسلح في قول كلمتها كما في الأمثلة التي أوردها بل كان هناك نقد مسؤول وحريص على هذه الحركات وعلى دورها كمعبر عن قضايا وطنية مهمة. ولذلك من المهم البناء على الإيجابي ومعالجة السلبي باتفاق هذه الحركات. ولا بد من التأكيد على رفض أي ردة أو محاولة للتقليل من دور شركاء السلام والقوى المشتركة في رد العدوان الهمجي الحالي على البلاد وفي تحرير البلاد من قبضة المليشيا منذ تفجر الحرب، وحتى يتم القضاء عليها نهائيا إن شاء الله.
السابع: كذلك من الضروري جدا بحث الأمور التي طرحتها الورقة لتهيئة المناخ للحوار السوداني ولإقامة حكم انتقالي يشبع تطلعات شعبنا ويحقق السلام الكامل والشامل والتحول الديمقراطي المدني الكامل، ولتكوين جيش موحد يستوعب قوى الكفاح المسلح بصورة مرضية تستكمل البناء القومي للقوات المسلحة وتعكس التضافر الذي حدث أثناء حرب الكرامة، مع التحفظ على فكرة استيعاب قوات الدعم السريع في أي منظومة دفاعية مستقبلية لما مارسته هذه القوات من مظالم وتجاوزات وجرائم بشعة في حق الشعب، ولوقوعها أسيرة لإرادة أجنبية بشكل كامل. كذلك هناك ضرورة لنقاش مسألة طول الفترة الانتقالية، فمع وجاهة المنطق الذي ساقته الورقة بضرورة مد الفترة الانتقالية لاستكمال تحقيق الأهداف المنوطة بالانتقال، تبرز وجاهة منطق أن أي حكومة تفتقر لشرعية شعبية سوف تعجز عن تحقيق تلك الأهداف، وهذا ما شهدناه في الفترة الانتقالية السابقة والتي كانت آية في ضعف الأداء والبعد عن نبض الشارع والوقوع فريسة للقوى والمصالح الأجنبية.
وأخيرا أقول، إن ورقة الحبيب مالك عقار ملأى بالمعلومات الموثقة والنقاش المفيد والرؤى المنيرة، واقترح ان ننطلق منها لنقاش العقد الجديد الذي أشارت له، وأن نطالب بقية القوى والحركات بتقديم رؤيتها المحتوية على جرد حساب، ونظرة مستقبلية، للوصول لأرض مشتركة للجميع.
والسلام
عبد الرحمن الصادق المهدي