مقالات

الجودية حديث الحكماء: رحلة بين وجع الإنسان وحكمة العقل

بقلم :د الهادي عبدالله أبوضفائر

 

في الرحلة التي بلغ فيها الوطن تخوم الانهيار، لم يعد العنف مجرد حدثٍ نقرأه في نشرات الأخبار أو نراه في الصور العابرة التي توثّق الخراب، بل صار كأنه روح تتجوّل بين البيوت، تمرّ على الأنفاس قبل الأمكنة، وتستقرّ في الوجدان بوصفها قدراً يحاول الناس الهروب منه دون جدوى. صار العنف لغةً صامتة تُقرأ بين جدران الخراب، حتى نال الخوف صفة القانون، وتحول القتل إلى منطقٍ لا يرحم، وأضحى الدمار مألوفاً.

 

في هذا الواقع المتهالك، لا تطلّ الجودية كعرفٍ اجتماعي عابر، ولا كأداةٍ بدائية لرتق الشقوق بين الناس، بل تنهض كحكمةٍ عتيقة، وكقيمةٍ تزداد صلابتها كلما اهتزّت البوصلة الأخلاقية، وتبعثر ميزان العدل، وضاق صدر الدولة عن احتواء مواطنيها. إنها الحكمة التي وُلدت من عمق الوعي الأوّل، يوم اكتشف الإنسان في لقائه مع السلطة أن الدولة قد تخونه عند المفاصل الحرجة، وأن القانون قد يتحوّل إلى سلعةٍ في أسواق النفوذ، وأن السلطة قد تُختطف وتُدار كغنيمةٍ تُقسَّم، لا كأمانةٍ تُصان. فالجودية هنا ليست مجرّد محاولة لتسكين العنف أو تهدئة لحظةٍ أفلتت من سياقها، بل امتحانٌ مفتوح لأعمق الأسئلة التي تهزّ جدار الوعي. ماذا يبقى من المجتمع حين يفشل في العيش المشترك سؤالٌ ينهض كظلٍّ طويل فوق الخراب، يمضي إلى جذوره الأولى بحثاً عن تلك اللحمة التي سبقت القوانين، وعن الروح التي أنشأت الجماعة قبل أن تُنشئها الدساتير.

 

العنف الذي نشهده اليوم لم يعد ظلاً لماضٍ عرفناه، بل تحوّلاً أكثر قسوة وعمقاً. لم يعد ثأراً قبلياً ضيقاً ولا صراعاً سياسياً مألوفاً، بل عنفاً وجودياً يسعى فيه كل فرد لانتزاع حق الآخر في البقاء. وكأن الوطن صار مسرحاً يختبر الناس عند حدّهم الأخير. حدود الخوف، الألم، والقدرة على الاحتمال. وفي هذا المشهد، تبدو المقاربات السياسية القديمة عاجزة تماماً، فالأزمة لم تعد نزاعاً على سلطة، بل على جوهر البقاء داخل بلدٍ أُنهِك حتى النخاع. وليس صراعاً حول من يحكم، بل سؤالاً أكثر جذرية. هل يمكن لوطنٍ يتصارع أهله على أبجديات الوجود أن يبقى حيّاً نابضاً؟.

 

هنا، تتقدّم الجودية لا لتحلّ محلّ الدولة، بل لتسدّ الفراغ المروّع الذي خلّفه انهيارها، محاولةً ترميم الهوّة التي اتسعت بين الإنسان ومصيره، وبين المجتمع وقدرته على أن يظلّ حيّاً. فهي ليست قانوناً مكتوباً، لكنها تستمد قوتها من سلطةٍ تتجاوز حدود النصوص، سلطة الشعور الجمعي، وخبرة التجربة، وبصيرة تراكمت عبر القرون حين أدرك الناس أن الحقيقة لا تحتاج دائماً إلى منصة قضائية لتتكشف، وأن العدالة ليست بنوداً مكتوبة، بل ضميراً يستيقظ حين يغفل الجميع.

 

وفي لحظةٍ غدا فيها الوطن جسداً يتناهشه طوفان الخراب، تتقدّم الجودية كجسرٍ يعيد وصل ما انقطع بين الناس، محاولةً جمع ما تبقّى من توازن وروحٍ تؤلّف الجماعة. ليست صلحاً بالمعنى السياسي فحسب، بل محاولة لاستعادة شرط الحياة نفسه الاعتراف بإنسانية الآخر كي تستعيد الجماعة توازنها، ويستعيد الوطن روحه. فالعنف ليس مجرد اعتداء على الجسد، بل انتهاك للرابط الخفي الذي يصنع الجماعة ويمنح الوطن كيانه. والصلح هنا لا يقتصر على إيقاف الدم فحسب، بل يسعى لحماية ما تبقّى من نسيج معنوي يصدّ الخراب قبل أن يتحوّل إلى قاعدة وجودية تسيطر على كل شيء.

 

إن التفكير في الجودية كأداةٍ لإدارة الصراع السياسي يقتضي مغادرة حدود التحليل التقليدي، والنظر إليها بوصفها قراءةً وجودية قبل أن تكون آلية تفاوض. فالجودية اعترافٌ خفيّ بأن الإنسان قد يضيع حين يطوّقه

العنف، وأن السلام يبدأ حين يعترف كل طرف بإنسانية الآخر قبل أي خطة أو قرار سياسي. وهي تذكيرٌ بالعودة إلى تلك البساطة الأولى التي نشأ منها الاجتماع البشري. يوم كانت الكلمة أثقل من البندقية، والخاطر أقوى من الجيوش، والعار رادعاً أشدّ من كل العقوبات. إنها، في جوهرها، محاولة لأن تحلّ الأخلاق محلّ السلاح بلا ضجيج ولا ادّعاء ولا تنظير، يكفي فيها أن يقول الناس. عيب، ليتوقّف نزيفٌ عجزت الدولة عن إيقافه بكل ما تملك من قوانين.

 

لكنّ الجودية ليست خلاصاً كاملاً، بل هي أقرب إلى ضمادةٍ تُوقف النزيف دون أن تمتلك قدرة الشفاء الجذري. غير أنّ هذه الضمادة ذاتها، على ضعفها الظاهر، قد تكون شرط النجاة الوحيد حين يتعذّر العثور على دواء، وحين يصبح وقف النزيف بداية الحكمة قبل البحث عن عِلّة المرض. فالدولة التي انهارت لا يمكن أن تُعاد كتابتها مرة واحدة، والمجتمع الذي تمزق لا يعود متماسكاً بأمرٍ سياسي أو اتفاقٍ فوقي. يحتاج إلى لغة يثق بها، وإلى حكماء لا يخافون من قول ما لا يستطيع السياسيون قوله، وإلى قيمٍ تُستعاد من تحت ركام الخراب. هنا فقط تصبح الجودية ليست عرفاً إجتماعياً، بل مشروعاً فلسفياً يعيد السؤال. ما الذي نفقده حين نرفع السلاح، ونتركه يحدد مصائرنا ويقود عقولنا إلى الهلع؟ وما الذي نستعيده حين نضعه جانباً، ونفتح آذاننا لصوتٍ يأتي من خارج دائرة العنف، صوتٍ يعيد للروح توازنها وللعلاقات الإنسانية معناها؟.

 

فهي ليست مجرد نداءٍ للمصالحة، بل صرخة لاستعادة جوهر الحياة المشتركة. كأنها تسألنا. كيف نعيش معاً بعد أن عجزت السياسة عن احتضان الجميع؟ وكيف يحفظ الوعي الجمعي توازنه حين تتوارى السياسة وتترك الناس أمام فوضى المصائر؟ وهل تستطيع الحكمة الشعبية أن ترى ما تعجز عنه مؤسسات الحداثة حين ينهار بناؤها تحت ثقل السلاح؟ قد لا تمنح الجودية جواباً نهائياً، لكنها تمنحنا ما هو أثمن. تذكيراً بقدرتنا على إعادة صياغة علاقتنا ببعضنا وبوطننا بعيداً عن منطق الغنيمة والهزيمة. كأنها تقول إن العنف ليس قدراً، وإن المجتمع حتى حين تتكسر عظامه يملك قدرة خفية على ابتكار طريق يسبق السياسة، ويعيد بناء العالم من الحقيقة البسيطة. (أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيداً).

 

وهكذا تعود الجودية إلى حكمتها الأولى، حيث يجود كل امرئ بما يملك، مستعيناً بميزان العقل لا بانفعال العاطفة. فالتنازل مهما بدا بسيطاً قد يبلغ حدَّ ترك الإنسان دم فلذة كبده، وكأنّه ليس مجرد حلٍّ عابر، بل سؤالٌ وجوديٌّ عميق حملته التجارب عبر الأجيال. إنها دعوة لإعادة النظر في جوهر الدولة، وفي قيمة القانون، وفي ما يعنيه أن نعيش معاً على بقعة واحدة من هذه الأرض الجريحة. ففي وطنٍ لم يعرف السكون منذ عقود، قد تكون الخطوة الأولى نحو الخلاص هي العودة إلى تلك الحكمة القديمة؛ لا لنستعيد ماضياً مضى، بل لنمنع المستقبل من أن يتحوّل إلى صورة أكثر ضراوة من حاضرٍ أثقلته الجراح.

abudafair@hotmail.com

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى