الأعمدةتأملات

الفتنة نائمة .. لعن الله من يوقظها

تأملات
جمال عنقرة

سألني احد القراء لماذا اكثر من الحديث عن الفتن، والخلافات والصراعات، بين أهل السودان عموما، وفي صفوف الحاكمين علي وجه الخصوص ، وسألني ان كنت اري ما لا يرونه، او اعلم ما لا يعلمون.
فقلت له واقول، إني ظللت مأخوذا بحديث الصحابي الجليل حزيفة بن أليمان رضي الله عنه عندما جاء الي رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال له(الناس يسألون عن الخير وجئت اسألك عن الشر .. فهل من بعد هذا الخير شر؟) وكانت خلاصة إجابته صلي الله عليه وسلم (نعم .. وفيه دخن) وأبان عليه افضل الصلاة والسلام ان دخنه رجال يهتدون بغير هديه، ويستنون بغير سنته، فظللت علي الدوام أتحسب للشر الذي يأتي بعد الخير، وفي تاريخنا دروس وعبر جدير بنا ان نتعظ منها، لا سيما في مجال السياسة، وأكثر هذه الفتن تكون بسبب الصراع والخلاف والنزاع، ولقد حذر الله سبحانه وتعالي من ذلك، (لا تنازعوا .. فتفشلوا .. وتذهب ريحكم) وكان الرسول صلي الله عليه وسلم قد أبان انه لو ارسل الله تعالي علي الناس عذاباً من فوقهم، ومن تحت ارجلهم أهون من ان يلبسهم شيعا وطوائف، ويذيق بعضهم باس بعض.
ومن نعم الله تعالي علي، والتي لا تحصي ولا تعد ان كل الأوساط التي نشأت فيها ركيزتها الأساسية التعايش والتراضي وقبول الناس بعضهم بعضا، ابتداء من الاسرة التي تضم في داخلها كل قبائل وأعراق أهل السودان، ثم المدن التي نشأت فيها، ام روابة والأبيض. وأم المدائن ام درمان، وكفر الشيخ المصرية. والمدارس التي درست فيها، ام روابة الغربية، وعاصمة كردفان المتوسطة، والأبيض الثانوية، ثم مصر التي صارت لي وطنا ثانيا، او اول، لا فرق، فهي والسودان عندي صنوان، لذلك أتعامل مع الآخر بقبول وترحاب شديدين، ولهذا عندما تمت المصالحة الوطنية في عام ١٩٧٧م بين الجبهة الوطنية المعارضة التي كانت تضمنا نحن الإسلاميين مع حزب الأمة والاتحاديين، واختارت الحركة الاسلامية المشاركة في مايو بمهر الحريات فقط، كنت الوحيد تقريبا من شباب الحركة الاسلامية الذي انخرط في اجهزة مايو السياسية والإعلامية بحب، وصنعت علاقات حميمة مع رموز وقادة مايو، ابتداء من الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري، وحتي اصغر شبابها، وكان كثيرون يدهشهم ذلك، وبعض يستغربه، وبعض آخر يستنكره، رغم ان هذا كان هو الموقف الطبيعي، ولم يكن عندي مفهوما او مقبولا ان يكون التنظيم مشاركا في اجهزة الحكم، وشبابه وطلابه يعارضون ذات الحكومة ويهاجمونها، ولقد امتاز جيلنا من الإسلاميين الذين درسوا الجامعة في مصر في تلك الحقبة، بتلك الميزة، ميزة التعايش مع النظام الذي يشاركه تنظيمنا الحكم، والتعايش مع زملائنا الذين يجمعنا معهم الوطن، واذكر ان المستشار الثقافي في السفارة السودانية في مصر الأستاذ محمد سعيد معروف الذي كان من اليساريين المايويين، تعامل مع الاتحاد العام للطلاب السودانيين الذي أسّستاه أول العهد بعداء وجفوة، ثم تعايش معنا، ثم رعانا واحتضنا، ثم وقع هو نفسه في حضن الحركة الإسلامية، وكان الدكتور الترابي يعتز جدا بتجربتنا، واوصي بان يتم استيعاب احد خريجي الجامعات المصرية في أمانة الطلاب الاتحادية للحركة الاسلامية، ووقع الاختيار علي شخصي الضعيف، فكنت اول خريج من مصر يتم استيعابه متفرغا للعمل التنظيمي، وكلفوني بأمانة المناشط، وبحمد الله وتوفيقه، وبتعاون زملائي في الأمانة أحدثنا تغييرا جذريا في أنشطة الطلاب الإسلاميين العامة، وكانت تلك بداية الانفتاح.
المتأمل في تاريخ السودان يجد ان المصائب توحد شعبه فيحدث المعجزات، والنعم تفرقهم فيخسرون كل ما كسبوا، فلما بطش نظام محمد علي باشا بأهل السودان، وتعسف معهم في جبي الضرائب التي من اجلها والرجال الأقوياء الأشداء غزوا السودان، توحد السودانيون خلف الامام المهدي وانجزوا اعظم ثورة شعبية وطنية عسكرية، ولكن ما ان انتصروا وطردوا المستعمرين ودان لهم الحكم، اختلفوا وتفرّقوا، واصطرعوا وقتل بعضهم بعضها، وذات الذين كانوا مع المهدي وأحدثوا الثورة، تعاونوا مع الغزاة واسقطوا الدولة.
استقلال السودان الثاني في أول يناير عام ١٩٥٦م كان مشحونا بالعبر والدروس المفيدة، مقترح الاستقلال قدمه في البرلمان الناظر عبد الرحمن دبكة حزب الأمة الاستقلالي، وثناه الشيخ مشاور جمعة سهل الاتحادي، وتشارك رئيس الحكومة الزعيم إسماعيل الأزهري وزعيم المعارضة السيد محمد احمد محجوب في رفع علم السودان ، وشهد الحدث السيدان عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني ،
ولكن سرعان ما دبت الخلافات التي كانت نتيجتها ان استدعي المدنيون الحاكمون العسكريين لاستلام السلطة ، فسقط النظام الديمقراطي بايدي أوليائه قبل ان يكمل عامه الثاني.
وفي اكتوبر ١٩٦٤م توحدت كل القوي السياسية اليمينية واليسارية، ووقف معهم كل الشعب بقيادة الطلاب، فاستجاب الفريق عبود لنداء الشعب وتنازل عن الحكم، وعاد العسكريون الي الثكنات ولكن الخلافات عادت مرة ثانية، فتحالفت بعض القوي السياسية الكبيرة مع التيار الإسلامي واستثمروا حادثة ندوة معهد المعلمين العالي، في ام درمان ، واستجابت الحكومة لمطلبهم وتم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان ، فخرج الشيوعيون من الباب وعادوا بالشباك مع انقلاب مايو ١٩٦٩م، واسقطوا الحكومة الديمقراطية الثانية.
في فبراير عام ١٩٨٩م تآمر بعض الحزبيين مع قادة الجيش الذي قدموا مذكرها لرئيس الوزراء السيد الصادق المهدي طلبها الأساسي اخراج الجبهة الإسلامية من الحكومة، فاستجاب السيد الصادق للضغوط وحل حكومته، وخرجت الجبهة من الباب وعادت بالسباك بعد اقل من اربعة شهور مع مجموعة الإنقاذ بتحالف الترابي والبشير.
في ديسمبر ٢٠١٨م توحد كل الشعب السوداني في ملحمة عظيمة شارك فيها حتي الإسلاميين الذين كانت تحكم الإنقاذ باسمهم، وانحاز اليهم قادة المؤسسات العسكرية الذين كانوا يشكلون اللجنة الأمنية وأجبروا الرئيس البشير علي التنازل من الحكم، فتنازل وانفتح فصل جديد من فصول المأساة السودانية القديمة المتجددة، وصار الخلاف هذه المرة اسوأ من أي خلاف مضي، فالخلافات السابقة كانت كلها سودانية سودانية، اقصي مدي لها ان يستعين طرف بالمؤسسة العسكرية الوطنية ويستولي علي السلطة ، ويتحول الحكم من حكم وطني مدني الي حكم وطني عسكري، فيحافظ علي الثوابت الوطنية للبلد والشعب، ولكن هذه المرة ظهرت قوي اجنبية طامعة وعميلة، وسعت الي وضع يدها علي السودان بفرض مجموعة معزولة مبتورة علي الحكم، وتمثل ذلك في تحالف الرباعيتين، الرباعية الخارجية الراعية أمريكا وبريطانيا والإمارات والسعودية ، والرباعية الداخلية التابعة، رباعية مركزية قحت ، وحاولت الرباعيتان فرض ما عرف بالمشروع الإطاري ، ولما فشلوا في ذلك لجأوا الي عملية عسكرية شاملة، ولما فشلت العملية في تحقيق الهدف الذي كانوا يظنونه هينا ويسيرا، عملوا علي تدمير البلد كله، وقتل وتشريد شعبه، ونهب ممتلكاته.
هذه الأزمة الأخيرة وحدت أهل السودان كما لم يتوحدوا من قبل، وشعار (شعب واحد جيش واحد) الذي كان مجرد هتاف صار واقعا معاشا، فصار الشعب كله جيشا، وأصبح القضاء علي المليشيا مجرد زمن منظور بإذن الله تعالي، ولكن رغم ان الدرس كان قاسيا جدا هذه المرة ، لكننا لم ناخذ منه العبرة الكافية التي تعصمنا من الوقوع في براثن الخلافات القديمة التي شتت شملنا، وأضاعت كل منجزاتنا، ابتداء من دولة المهدية وحتي ثورة ديسمبر ٢٠١٨م.
لا اعني بالطبع الخلافات السياسية بين المجموعات الواهمة، من الذين يسعون الي ميراث حطام البلد ، فهؤلاء لا خير فيهم ولا كفاية شرهم، وهم كل علي الوطن أينما وجّهوا او توجهوا لا ياتون بخير، ولكنني اعني الخلافات بين قادة معركة الكرامة، فلئن كانت الخلافات قبل الحرب قد قادت الي الحرب التي دشدشت جسد الوطن، فان الخلافات بين القادة لو لم تدرك بحكمة ووعي، وما لم تتم مواجهتها بقوة وصراحة، ستكون نتيجتها تهشيم الرأس، والحافظ الله.
ولأنني لست من الذين يدسون رؤوسهم في التراب، ويتعامون عن الحقائق، ولست من الذين يتحاشون الفيل ويطعنون في ظله ، أواجه الحقيقة كما هي، وأسدي نصحي لله والوطن.
وسوف اكتفي هنا بذكر بعض محدود من الخلافات العليا الظاهرة والتي يعلمها الجميع، واذكر اولا الحملة الإعلامية الشرسة ضد حركات الكفاح المسلح ، وضد قادتها وضد رموزها، وضد القوات المشتركة، ولا بد ان نذكر هنا التهديد والوعيد الذي وجهه لهم مواطن من عامة البشر لا صفة له في وسط العاصمة الإدارية بورسودان وعلي مرمي حجر من كل السلطات السيادية والأمنية ولم يتعرض له، او يعترضه احد. رغم ان ما قاله يدخل تحت طائلة تهديد الأمن القومي ، وكان احد قادة حركات الكفاح المسلح قد اعلن عن مؤتمر صحفي للرد، ولكن لم يقم المؤتمر ، ومن تلك الأمثلة اتهام عضو مجلس السيادة الفريق أول ركن ياسر العطا لاحد أعضاء المجلس بانه يحتضن قحت ويحمي المليشيا، ومنها الحملات الصحفية المنظمة التي تعرض لها عضو مجلس السيادة الفريق أول ركن شمس الدين كباشي، ومنها الهجوم علي شباب الإسلاميين الذين يتقدمون صفوف الجهاد والاستشهاد،
والأمثلة كثيرة ولكنني اكتفي فقط بتلك الثابتة، والهدف من ذلك تاكيد وجود بوادر خلافات يجب ان تسعي الي محاصرتها ومعالجتها قبل ان تستفحل، وتصيبنا في مقتل، لا سيما في ظل وجود من يعملون للاصطياد في المياه العكرة، وفينا سماعون لهم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى