
المظلومية وصراع السلطة: لماذا نحارب الدولة ثم نتفاوض على الكراسي
بقلم :د. الهادي عبدالله أبوضفائر
منذ أن خرج السودانيون إلى الشوارع في أول حراك وطني يطالب بالحرية والكرامة، ظلّت العلاقة بين الإنسان والدولة علاقة ملتبسة، قائمة على شعور مزدوج. خوفٌ من الدولة كما صُممت في أصلها الاستعماري، واشتهاءٌ للسلطة باعتبارها التعويض الوحيد عن مظلومية طويلة لم تجد طريقها للعدالة. ومن ثورة إلى أخرى، تكرّرت السيرة نفسها. نحارب السلطة حين تظلمنا، ثم نتفاوض عليها حين تسقط، بينما تبقى الدولة، بمعناها العميق ومؤسساتها العدلية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية، خارج دائرة الاهتمام، كأنها كيان بلا صاحب، أو إرثٌ لا يرغب أحد في إصلاحه.
كانت ثورة أكتوبر لحظة فارقة، إذ كشفت لأول مرة قدرة الجماهير على إسقاط الحكم العسكري، لكنها، مثل بذرة لم تتوفر لها التربة، لم تتحول إلى مشروع دولة، ذلك أن النخب التي ورثت المشهد أعادت إنتاج الصراع ذاته، وتنافس الجميع حول الكراسي دون أن يجرؤ أحد على سؤال. كيف نصنع دولة محايدة تخدم الناس جميعاً؟ وعندما جاءت انتفاضة أبريل، كرّر التاريخ نفسه. سقوط سريع، إلهام جماعي، ثم انشغال محموم بتقسيم السلطة لا بتأسيسها. بدا الأمر وكأن الثورة عندنا حدثٌ يواسي الجراح، لا خطوة في مشروع تاريخي طويل لإعادة بناء الدولة.
ثم جاءت الإنقاذ لتعمّق الشرخ في الوعي العام، فقد كان مشروعها الأكبر هو إعادة هندسة العقل السوداني وإعادة تعريف الولاء باعتباره جوهر الدولة. لم تعد المؤسسات ملكاً للمجتمع، بل صارت امتداداً للحزب، ولشبكات مصالح متداخلة. في تلك العقود الطويلة أصبح المواطن تابعاً، لا مالكاً لحقوقه، وتحول خطاب المعارضة إلى مظلومية شاملة، يرى فيها الفرد أن الدولة نفسها خصم، لا إطار للعدالة. وجعل ذلك مفهوم الدولة ينهار في المخيال الجمعي حتى صار كثيرون يساوون بين الدولة والسلطة، فصار إسقاط السلطة إسقاطاً للدولة معها، وصار الخوف من الدولة خوفاً من كل ما هو عام ومشترك.
وعندما جاءت ثورة ديسمبر، بدا وكأن الوعي قد نضج، وأن جيلاً جديداً استطاع كسر الحلقة القديمة من الاستسلام والانتظار. كانت الثورة أكثر اتساعاً في المشاركة، وأكثر صفاءً في الشعارات، لكن المشهد بعد سقوط النظام فضح هشاشة البنية السياسية. نخبٌ بلا مشروع، أحزابٌ عالقة في ذاكرة الخمسينيات، قوى مسلحة ترى السلطة طريقاً للثروة، ومجتمع يحمل جراحه على ظهره دون قدرة على تحويلها إلى رؤية للمستقبل. وعندما فُتحت أبواب التفاوض، تكررت المأساة ذاتها بصيغة أكثر وضوحاً. الجميع يفاوض من أجل السلطة، لا من أجل الدولة. الغالبية تتحدث عن المقاعد، لا عن المؤسسات. الكل يريد نصيباً من الكعكة، لا إصلاح المخبز الذي يحترق.
هكذا تعمّق السؤال القديم الجديد، لماذا نحارب الدولة حين تُظلمنا، ثم نتفاوض على السلطة حين تسقط؟ السبب ليس سياسياً فقط، بل هو امتداد لبنية تاريخية وثقافية واجتماعية. فالدولة التي ورثناها من الاستعمار لم تُبنَ لتكون خادمة للناس، بل أداة لإدارتهم. والمؤسسة التي تفقد معناها الأخلاقي تصبح في نظر المواطنين قوة غريبة، لا بيتاً عاماً. ثم جاءت النخب، منذ الاستقلال وحتى اليوم، لتعمّق الأزمة. لم تتفق على تعريف (الوطن والمواطن الذي نريد أن نحكمه)، بل اكتفت بتبادل المواقع في نظام بلا رؤية قومية. أما المواطن، فقد وجد نفسه بين دولة قاسية ونخب متصارعة، فصار خطاب المظلومية ملاذه الأخير، وصار يرى في السلطة تعويضاً عن حرمان طويل، أكثر منها مسؤولية لبناء وطن.
وفي ظل غياب العدالة، يتحول الشعور بالظلم إلى هوية. وفي ظل غياب المؤسسية، يتحول السلاح إلى لغة تفاهم. وهكذا تنشأ العقلية الجنجويدية، لا بوصفها مليشيا فحسب بل كنمط تفكير. تجاوز القانون لتحقيق الغاية، تبرير العنف بضرورات المصلحة، واختزال الدولة في القوة التي يمكن اقتسامها. بهذا الشكل أصبح الوطن يعيش حالة من التناقض الدائم. نحارب الدولة لأنها ظالمة، ثم ننتزع السلطة لنمارس بها ظلماً جديداً، وكأن التاريخ يدور في حلقة مغلقة لا يعرف كيف يخرج منها.
لكن الخروج ممكن، بل ضروري، إذا امتلكنا شجاعة النظر خارج الصندوق. فالحل لا يبدأ بتغيير السلطة، بل بتجميد الصراع عليها مؤقتاً، والانتقال إلى مهمة أكثر جذرية. إعادة تأسيس الدولة نفسها. دولة مستقلة عن الأحزاب، وعن الأجهزة العسكرية، وعن القبائل، وعن جماعات المصالح. دولةٌ يُعاد فيها بناء القضاء، لا ليكون ذراعاً للسلطة، بل ميزاناً لها، ويُحرر فيها الإعلام من النزعة الحزبية، وتُفصل فيها المؤسسة العسكرية عن الاقتصاد والسياسة، وتُعاد فيها كتابة قواعد إدارة المال العام وفق معايير صارمة وشفافة تجعل من الفساد فعلاً مكلفاً لا مجزياً.
ولأن الأزمة ليست سياسية فقط، بل اجتماعية وثقافية، فإن الوطن بحاجة إلى ميثاق اجتماعي يسبق الدستور السياسي، نتفق فيه على هوية وطنية جامعة، وعلى حدود العلاقة بين المركز والأطراف، وعلى معنى المواطنة، وعلى أن الدولة ليست غنيمة بل عقد أخلاقي. دون هذا الميثاق سيظل الدستور ورقة جميلة فوق أرض متصدعة. كما يحتاج الوطن إلى تحويل المظلومية من خطاب سياسي إلى ذاكرة مؤسسية. سجلات للانتهاكات، مسارات للعدالة الانتقالية، تعليمٌ يواجه الحقيقة لا يختبئ منها، وإعلام يربط الأجيال بتاريخها دون تزوير. فبدون إغلاق جرائم الماضي في إطار عدالة، لا يمكن فتح باب المستقبل في إطار سلام.
ولن تستقيم الدولة ما دام اقتصادها مبنياً على الغنيمة. لذا يجب إعادة هيكلة الاقتصاد ليصبح محايداً تجاه السلطة، لا تابعاً لها، وذلك عبر الرقمنة الكاملة للمالية العامة، وتفكيك الاحتكار والقبلية، وخلق نظام يوزع الموارد وفق معايير موضوعية لا وفق موازين القوة. ولحماية هذه الرؤية، يمكن تأسيس مجلس وطني مستقل للذاكرة والإصلاح، يعمل كعين المجتمع على السلطة، ويراقب أداء الدولة كل عام، ويحمي المستقبل من إعادة إنتاج الخطأ القديم.
إن السودان لا يحتاج إلى ثورة جديدة، بل إلى وعي جديد. الوعي الذي يدرك أن الثورة ليست لحظة هياج بل مشروعاً طويلاً لبناء مؤسسات، وأن الدولة ليست عدواً بل ضمانة، وأن السلطة ليست غاية بل دورة عابرة؛ وأن الوطن هو ما يبقى حين تسقط كل هذه الدورات. وحين نمتلك هذا الوعي، سيتحوّل صراعنا من تنافس على المقاعد إلى تنافس على صناعة مستقبل يليق بالإنسان، الذي يستحق كرامته أن يعيش في دولة لا تُبنى بالمظلومية ولا تُدار بالعنف، بل بالعدل، وبالعقل، وبالإيمان العميق بأن السودان وطن يمكن أن يولد من جديد إذا وُجد من يؤمن به أكثر مما يؤمن بالغنيمة.
abudafair@hotmail.com