
النظرية التي اصبحت واقع ببن يرنارد لويس و صمويل هنتغتون والسودان
بقلم:بكري يوسف البُر
برنارد لويس (١٩١٦-٢٠١٨) صاغ رؤية مفادها أن الدول الكبيرة والمتنوِّعة يمكن إضعافها عبر ‘تحريك الشقوق’ الداخلية عرق، قبيلة، مذهب، جهة، أي تفكيك السلطة المركزية من الداخل بدلاً من محاربتها بالقوة الصرفة، و صاغ و بتكليف من وزارة الدفاع الامريكية حول رؤية لتفتيت الشرق الأوسط الكبير ١٩٨٣، و من بينها السودان و ذلك في جلسة سرية بالكونجرس الامريكي الذي واقف علي تصور لويس.
تلميذه صمويل هنتنغتون ١٩٢٧-٢٠٠٨ وسّع الإطار ونقل التركيز إلى الهوية كخلفية للصراع، مع التأكيد أن معارك القرن الحادي والعشرين كثيراً ما تُقاس على محاور حضارية أو هوية وليس فقط مصالح أو أيديولوجيا. هذا الإطار النظري يوفّر لنا عدساتٍ لفهم لماذا تُدار بعض النزاعات اليوم بطريقة تغذي الانقسام بدل فرض حل سياسي فاعل. و تستحضرني مقولة زعيم الثورة الفيتنامية هوشي مِنه حين قال: “لا يوجد بيت مدمر، او حجر مبعثر، أو يد مبتورة، أو أُم ثكلي، أو أُمّة مشوهه، إلا و ستجد للولايات المتحدة الامريكية اثرا فيه”
تم استخدام أدوات الجيل الرابع والخامس في التدخل و التغيير المخطط له بدقة
حروب الجيل الرابع تعتمد إلى تفكيك الدولة عبر وكلاء محليين وميليشيات وصراعات قبلية، و مثال لذلك اتحاد انقاذ دارفور Save Darfur, ففي عام ٢٠٠٧ تكون اتحاد من ١٨٠ منظمة دينية و دعوية و انسانية، شبكة بشرية من ١٣٠ مليون شخص، و ميزاتية ١٤ مليون دولار في العام، لا يذهب أي جزء من تلك الميزانية لمساعدة المحتاجين في دارفور، و امعانا في تنفيذ حروب الجبل الرابع، ذكر محمود ممداني، انه في عام ٢٠٠٤، طرح النائب دونالد باين (ديمقراطي) من مجموعة النواب السود، مع السناتور سام براون باك (جمهوري محافظ)، دفعا بمشروع قرارين متزامنين في مجلسي النواب و الشيوخ، اعلنوا وجود ابادة جماعية في دارفور، و في اقل من شهر، اقر مجلسي الشيوخ و النواب القرارين بالاجماع، رغم ان كولن باول وزير الخارجية حينها غير مقتنع بالتهمة حين زار دارفور في ٢٠٠٤، و لكنه رضخ للصغوط.
بينما الجيل الخامس يضيف سلاح الإعلام والمعلومة والاقتصاد كوسائل لاستنزاف الدولة وإطالة الصراع بلا غزو تقليدي. هذا المزيج هو الذي نراه عملياً، صراع مدفوع بتمويل خارجي، قنوات معلومات مضللة، وانتقال السلاح بأساليب تلتف على العقوبات، و يظهر هذا في انكار الامارات لتهم تسليح المليشيا المتمردة، و قيام ابوظبي بإنشاء غرف اعلامية مستأجرة للتأثير علي الرأي العام العالمي و المحلي بنشر و تلفيق الاكاذيب.
خلقت الطبيعة في السودان موقعا يجعل منه بوابة البحر الأحمر وقلب القرن الإفريقي. التحكم في هذا الفضاء البحري يعطِي نفوذا على خطوط شحن نفطية وتجارية عالمية، والقدرة على التأثير في توازنات إثيوبيا، مصر، وجنوب السودان. لهذا السبب تصبح أي فوضى في الخرطوم أو الساحل مسألة إقليمية وعالمية، ولا تبقى محلية في تأثيرها أو في منافعها لمن يديرها من الخارج. تقارير متعددة تؤكد أن الحرب في السودان لها انعكاسات مباشرة على أمن البحر الأحمر وتوازن القوى في القرن الإفريقي، و دور السودان المحوري المهم لأمريكا و استراتيجيتها في ولادة قرن افريقي حسب رؤية أمريكية بأن ذلك لن يتحقق الا عبر الخرطوم، و سيظل السودان رمانة القرن ، و يظهر تأثر الأمن المباشر للسعودية من تلقاء جنوب البحر الاحمر و تخوّف السعودية من التحرك الإماراتي الذي يسعي لخنققها عبر الانتشار و السعي للسيطرة علي الموانيء المطلة علي البحر الأحمر.
رغم التحرك الخليجي و السعودي في القرن الافريقي، إلا انه سيكون في حدود ما تسمح به القوي الدولية، حتي و إن تعارض ذلك مع مصالحهم الذاتية.
أكثر من مصدر وثّق بأدلة وتقارير وتحقيقات أن دوراً إماراتياً ظهر عملياً عبر دعم لوجستي وعمليات نقل وتسليح موجهة الي عناصر قوات الدعم السريع المتمردة، هذا الدعم أثار إجراءات قانونية رسمية من الخرطوم (قضية أمام محكمة العدل الدولية) وانتقادات واسعة، و انتفاضة أبناء السودان الاوفياء بالخارج في فضح الدور الإماراتي في تدمير السودان، و إسماع صوت السودان في كل العواصم في العالم، ادخل ذلك التحرك ابوظبي في ورطة و حرج امام العالم، و ظهر تأثير ذلك في هبوط الاسواق المالية بابوظبي،و طرد شركة موانيء ظبي من بريطانيا، خوفا من التغول الخليجي في أوروبا، و تعليق فوري لكل صادرات السلاح لابوظبي من بريطانيا لثبوت تسرب هذه الأسلحة للمليشيا المتمردة، و تكشير امريكا عن انيابها (ظاهريا) في كبح جماح الجنون الإماراتي المتعطش للدم، كما ربطت تقارير تحقيقية تداعيات الأسلحة والطائرات بدون طيار بتدفقات عابرة للحدود عبر شبكات لوجستية في دول الجوار القريب. هذه المعطيات تجعل من الإمارات فاعلاً لا يمكن تجاهله في معادلة صنع الفوضى أو تسويقها كأداة نفوذ، أدي ذلك لمذابح و جرائم الفاشر و الجنينة، و ود النورة و كثير من مناطق السودان، و تدمير البنية التحتية للسودان.
تتقاطع هذه العوامل مع فكر لويس وهنتنغتون، في السيطرة،
فعندما يدعم فاعل خارجي أذرعاً محلية، ويغذي خطاباً يقوم على الاختلافات القبلية والجهوية، فإنه عملياً يُنفّذ مقاربة لويس: لا فرق بين تفجير هُويّة وطنية والإبقاء على دولة ضعيفة يسهل التحكم بها. هنتنغتون يوفر الخطاب التبريري مفاده أن الهوية هي الساحة المركزية للصراع، مما يجعل التدخل الخارجي يُسوَّق على أنه إدارة أزمة هوية لا احتلال. في السودان، إذن، يجتمع الإطار النظري مع أدوات العصر (4GW/5GW) ومع مصالح خارجية (بما في ذلك مصالح خليجية) لصناعة واقع سياسي محكوم بالعنف والفراغ المؤسسي.
أزمة الهوية والتشتت المجتمعي في السودان هيأ مناخا داخليا مناسبا، لان الواقع
السوداني يحتوي على عوامل داخلية كانت، قبل أي تدخل خارجي موادّ قابلة للاشتعال، ولاءات قبلية متجذّرة، هويات جهوية قوية، تاريخ نزاعات حول الأرض (الحواكير) والموارد، وضع اقتصادي واجتماعي هش، ومؤسسات سياسية مركزية مهترئة و لم تقم بدورها.
هذه الشروخ المحلية هي الوقود الذي يبحث عنه أي فاعل خارجي يريد تطبيق نظرية لويس و هنتغتون، إذا ما اشتعلت الخلافات المحلية وطالت، فإنّ أي تدخّل خارجي يصبح فعالا بكلفة أقل وبنتائج يصعب عكسها. التقاطعات بين الميول المحلية والرغبات الخارجية تخلق دائرة مستدامة للصراع الي ان تبلغ المؤامرة اهدافها. المرسومة.
و هناك امثلة تاريخية أميركية تقوّي الحجة،
بالتجارب الأمريكية في القرن العشرين والواحد والعشرين (من انقلابات الدعم السري في أميركا اللاتينية إلى عمليات تضليل إعلامي لتبرير سياسات خارجية) تظهر نمطاً سياسياً متكررا بعدم الاعتماد فقط على القوة المفتوحة، و لكن بإستخدامَ وكلاء، وتقنيات معلوماتية، وتوظيف مصالح اقتصادية لتشكيل واقع مُتاح للنفوذ. أمثلة مثل غواتيمالا 1954 وغزو خليج الخنازير، وعمليات تضليل في نيكاراغوا، خير دليل على أن الفكرة تُترجم إلى أفعال زمنية عند تهيئة الشروط. هذا السجل التاريخي يساعدنا على فهم أن ما نراه في السودان ليس استثناءً، فهو تعبير عن تقليد نفوذ يُعاد تطبيقه بوسائل جديدة.
الواقع القاسي الذي نعيش بوجود فاعلين خارجيين (ومن بينهم دول خليجية، يغيّر قواعد اللعبة، يمكن الحل في تجفيف لآليات التمويل والتسليح العابرة للحدود ، و ذلك ما تعمل عليه حكومة السودان، بداً من جده و القاهرة و المنامة و جنيف و واشنطن و تمسكها المُشرِف بهذا المبدأ، رغم الضغوط.
أمر آخر لحل ازمة الحرب و ايقافها نحو تجريد الصراع من أبعاده الخارجية عبر آليات دبلوماسية واقعية: مراقبة الحدود، تعطيل شبكات الإمداد، ومسارات لوجستية، ومساءلة متورّطي التسلّح عبر قنوات قانونية ودولية، و السعي الدبلوماسي لوقف مساعدة دول الجوار من جعل اراضيهم معبر للسلاح و المرتزقة عابري الحدود، جنوب السودان و تشاد و افريقيا الوسطي و ليبيا و أرض الصومال .
العمل بجهد لمعالجة أزمة الهوية والتشتت المجتمعي تبدأ ببرنامج شامل لإعادة الثقة، بحوارات محلية حقيقية، و إصلاح إداري، سياسة توزيع منصف للموارد، وبرامج اقتصادية فورية تقلص مناعة الحرب الاقتصادية، و الحفاظ علي ثروات و موارد البلاد لتنمية مستقبلية شاملة.
كما يجب عدم استبعاد اللاعبين الإقليميين عملياً، الحلول تحتاج إدماجا مع من يملكون نفوذاً حتى لو كانوا جزءاً من المشكلة، بصورة تحوّل مصالحهم من دعم الميليشيات إلى دعم الاستقرار، في شكل آلية ضامنة، حوافز اقتصادية، و شروط سلام قابلة للتحقق. تقليل النفوذ الخارجي لا يمر بالتحشيد الإعلامي فقط، بل عبر دفع تكاليف حقيقية، تبدو مُهينة و لكنه المنطق الاقتصادي العالمي، فلننحني للعاصفة و خلق تداببر بعد الاستقرار لمواجة ذلك التغول، و لا يتم ذلك الا بالتخطيط السليم، و الوحدة و نبذ الخلافات السياسية و المجتمعية.
إطار لويس وهنتنغتون يوفّر تفسيرا مفيدا لما نراه، ليس كل العنف في السودان طبيعياً أو ظاهرة محلية، ثمة مشروع خارجي يستفيد من شروخنا. لكنّ الاحتمال الإيجابي واضح، إذا نجح العقلاء زعماء مجتمعيين، سياسيين، عسكريين معتدلين، ومثقفين (دون استثناء) في توحيد استراتيجية وطنية ذكية تتعامل كلياً مع شبكات التمويل والتسليح، وتبدأ فوراً برفع مستوى الخدمات وإصلاح المؤسسات و إرساء دعائم ديمقراطية فيها تداول حضاري للسلطة، فالسودان يمكن أن يتحول من ساحة صراع، إلى قوة إنتاجية قادرة على إطعام المحيط الاقليمي و العالمي، والمساهمة في أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي. هذا يتطلب وعيا تاريخيا وسياسة عملية، و إدراك أن العدو الحقيقي في هذه اللحظة هو استنزاف الدولة وهشاشتها.