الأعمدةشيئ للوطن

بين شح المعرفة وغرق الأثير: ضرورة التربية الإعلامية والوطنية لإنقاذ السودان

شئ للوطن
م.صلاح غريبة – مصر
Ghariba2013@gmail.com

لم تعد الحرب في السودان مجرد صراع مسلح يدور في ساحات القتال، بل تحولت إلى حرب معلوماتية شرسة، يتشابك فيها صوت الرصاص بضجيج الأثير. في خضم هذا المشهد المعقد، حيث تختلط الحقائق بالإشاعات، وتتضخم الروايات أو تُحجّب، يبرز التحدي الأكبر: كيف يمكن للمواطن السوداني أن ينجو من “الإغراق الإعلامي”؟ وكيف يمكنه أن يُبقي على بوصلته الوطنية والإنسانية سليمة؟ الإجابة تكمن في ضرورة حتمية لإدماج وتفعيل منهجي لـ “التربية الإعلامية” جنبًا إلى جنب مع “التربية الوطنية” لكافة السودانيين.
تشهد ساحات الصراع السوداني، كما غيرها من النزاعات الحديثة، حالة من “الإغراق الإعلامي” (Infodemic). إنها فيض هائل من المعلومات، سواء كانت صحيحة، أو خاطئة (Misinformation)، أو مضللة عن قصد (Disinformation). هذه البيئة الفوضوية تستغلها أطراف الصراع، وتستفيد منها دوائر النفوذ الإقليمية والدولية لتغذية الروايات التي تخدم مصالحها، وتشويه صورة “الآخر”.
يجد المواطن العادي نفسه غارقًا في موجة لا تنتهي من المقاطع المتداولة، والتصريحات المتناقضة، والتحليلات التي تفتقر إلى الأساس. وفي هذا السياق، يصبح التدخل المدني غير المنضبط في الشأن والمعلومات العسكرية خطرًا بالغًا. ذلك التدخل، الذي غالبًا ما ينبع من عاطفة وطنية جياشة أو خوف مشروع، يتحول بسهولة إلى أداة تدمير ذاتي بكشف المعلومات الحساسة، فقد يؤدي تداول صور أو تفاصيل مواقع أو تحركات عسكرية، بقصد إظهار الدعم، إلى كشف معلومات حيوية للطرف المقابل، مما يُعرّض القوات والأرواح للخطر.
يسهم التداول غير النقدي للمعلومات العسكرية غير المؤكدة في خلق حالة من الإرباك والذعر، ويضرب في الصميم ثقة المواطن بمؤسساته بتغطية الشائعات، ويرفع النقاش العام المبالغ فيه حول التكتيكات العسكرية منسوب التوتر، وتشويه الأولويات فيُنسي المدنيين واجبهم الأساسي في هذه المرحلة: توحيد الصف الوطني، وتقديم الإغاثة، والحفاظ على النسيج الاجتماعي.
إن المبدأ المتداول: “المعرفة على قدر الحاجة”، ليس حكرًا على عالم العسكرية والاستخبارات فحسب، بل هو فلسفة حكيمة لـ قيادة الشعوب في أوقات الأزمات، ففي المجال العسكري يضمن هذا المبدأ أمن المعلومات ويقلل من الأضرار المحتملة للتسريب. فالمعرفة الزائدة التي تصل لمن لا يجب أن تصل إليه، تدمر.
في المجال السياسي والإعلامي، المعرفة يجب أن تكون كافية للوعي، وليست كافية للتورط أو التضليل. فالمطلوب من المواطن في وقت الحرب هو المعرفة الضرورية لاتخاذ قرار النجاة، والحفاظ على الوحدة، ومحاسبة الأطراف الفاعلة على أسس وطنية ومبدئية، وليس الانخراط في تفاصيل فنية لا يملك أدوات فهمها أو التأكد منها. المعرفة الزائدة عن الحاجة الفعلية للمواطن في الشأن العسكري قد تدمر قدرته على التركيز على الهدف الأسمى: إنهاء الحرب وبناء الدولة.
في ضوء هذا الواقع، يصبح تدريس وتطبيق التربية الإعلامية إلى جانب التربية الوطنية ضرورة وجودية لكافة السودانيين، صغارًا وكبارًا، فالتربية الإعلامية حصانة ضد التضليل وتعليم المواطن كيف يصبح مستهلكًا نقديًا للمعلومات ومنتِجًا مسؤولًا لها. فيجب أن تركز على التحقق من المصادر (Fact-Checking) بتعليم الأدوات والمهارات اللازمة للتمييز بين المصدر الموثوق والمحرض، بجانب فهم الأجندات ومساعدة المواطن على تحليل الرسالة الإعلامية وفهم الأجندة الخفية (سياسية، أو قبلية، أو دولية) وراء تضخيم خبر معين أو إخفاء آخر، بجانب الوعي بالخطاب التحريضي وتدريب على التعرف على مفردات ولغة الكراهية والتحريض التي تهدف إلى تفكيك اللحمة الاجتماعية وتأجيج الصراع الأهلي.
في سياق الحروب الأهلية، لا يجب أن تقتصر التربية الوطنية على التاريخ والجغرافيا، بل يجب أن تُركز على بناء “عقيدة وطنية” جديدة تُعلي من قيمة المواطنة والتنوع ويحمي النسيج الاجتماعي، فالمواطنة فوق الهوية الفرعية وترسيخ مفهوم أن الهوية السودانية الشاملة هي الخيمة الأكبر التي يجب أن يلتف حولها الجميع، وتجاوز التقسيمات القبلية والإثنية والمناطقية التي تستغلها أطراف النزاع.
يجب أن تُدرّس التربية الوطنية قيم التسامح، والتعايش، وثقافة السلام ونبذ العنف بجانب حل النزاعات سلميًا، وتجريم العنف كأداة للتغيير السياسي، وتحديد دور والمسؤولية المدنية المواطن المدني بوضوح خلال الأزمات، والذي ينحصر في الدعم الإنساني، الحفاظ على السلم، وممارسة الضغط السلمي على جميع الأطراف لوقف الحرب والعودة إلى مسار بناء الدولة المدنية.
إن الحرب في السودان كشفت هشاشة البنية المعرفية والوطنية للمجتمع أمام أدوات التضليل الحديثة. لم يعد الأمر مقتصرًا على الانتصار في الميدان العسكري، بل أصبح يتعلق بالانتصار في “معركة الوعي”. إن تزويد السودانيين بـ “المعرفة على قدر الحاجة” في زمن الإغراق الإعلامي، من خلال التربية الإعلامية والوطنية، هو الاستثمار الحقيقي في مستقبلهم. إنه السلاح الذي يحوّل المواطن من مادة خام للاستقطاب والتضليل إلى حائط صد منيع يحمي الدولة من الانهيار الاجتماعي والوطني. فمتى يدرك القادة والمربون أن “سلاح الوعي” لا يقل أهمية عن سلاح الجندي؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى