الأعمدةتأملات

تصريحات عقار .. وأزمة السياسة والإعلام في السودان 

تأملات 

جمال عنقرة

 

لم أشا أن أكتب عن تصريحات الملك عقار الأخيرة والتي قبلها وما ثار حولها من لغط وغبار كثيف رغم ما ترتب علي ذلك من آثار سالبة، إلا ان حديثه الأخير في الجلسة الختامية لمؤتمر الخدمة المدنية، وتناول الصحافة والإعلام له، ثم حديثه الأخير يوم امس السبت لمركز الشريف، تناول الإعلام له، كشف عن أزمات لا أقول حادة، بل هي اكثر من ذلك بكثير، وهذا ما أيقظني في الساعات الباكرة من فجر هذا اليوم لكتابة هذا المقال.

وما دفعني اكثر لكتابة هذا المقال، وبصراحة ووضوح، طرفا الأزمة، عقار والصحافة والإعلام.

وبصرف النظر عن معرفتي وعلاقتي القديمة بالسيد عقار والتي تعود الي ما قبل تمرده الأول في العام ١٩٨٤م، وبصرف النظر عن صلاتنا الحميمة، والتي صار بها بعض أبنائه في مقام أبنائي، وكذا الحال لبعض أبنائي، ولكن عقار بالنسبة لي، ولكثيرين من السودانيين، هو فرس الرهان الذي يخرج بلدنا من الظلمات إلى النور بفضل الله القادر الكريم.

وليس بين الحاكمين وحدهم، ولكن بين كل أهل السودان، لا سيما السياسيون منهم، عقار وحده لا شبيه له، فتجاربه في الحياة لا تقاربها أي تجربة، وشخصيته متفردة ومتميزة، وأكثر ما يميز الملك انه لا تكبله القيود التي تكبل كل السياسيين السودانيين تقريبا، فهو لا تكبله قيود دين ولا قبيلة ولا حزب ولا طريقة ولا طائفة ولا جهة، ولا يحزنون، فدينه السودان، وحزبه السودان، ووطنه السودان، ولا شيء ينتمي او ينحاز او ينجر اليه غير السودان، وهو ليس له أي امتدادات ولا التزامات خارجية، لا مع قبيلة، ولا دولة ولا حزب، وظل طوال فترة معارضته ومحاربته لحكومات السودان المتعاقبة، ظل مرابطا في الأراضي السودانية التي كانت تسيطر عليها الحركة، ولم يكن يغادر السودان إلا لمهام محددة يعود بعدها مباشرة الي أرض السودان.

والملك عقار، ومن خلال اطلاعه الواسع، واهتمامه العميق بتاريخ وتراث وثقافات أهل السودان، يعتبر الأكثر عرفة ومعرفة بهذا البلد واهله.

والملك عقار يمتلك رؤية واضحة لازمة السودان الماثلة، ولمسارات حلّها وتجاوزها، فهو أول من سمي العدو، وهو أول من حذر من الحلول الخارجية، وكشف مخاطر ذلك، ونبه الي مطامع الدول الاستعمارية والاستيطانية والاستغلالية، وهو اول من سمي مرحلة ما بعد النصر وقبل الانتخابات بالمرحلة التأسيسية.

فرجل بهذه الصفات والمقومات مهامه كبار، وأحماله ثقال، وصبره المرجوء لا تحده حدود، وأول من يجب عليه الصبر عليهم، واستيعابهم بخيرهم وشرهم، هم شركائه في السياسة، وقبلهم شركاؤه في الحكم من العسكريين والمدنيين وحركات الكفاح المسلح، فالأمانة التي يقع علي عاتقه حملها، لن يقدر عليها وحده، ولن ينجح فيها إذا لم يستوعب كل شركائها، وناهيك عن حلمنا الكبير الذي ننتظر الملك تحقيقه بفضل الله تعالي، فحتي حلمه الصغير الكبير والذي قرر أن يوقف نفسه له بعد النصر والانتصار المبين ان شاء الله تعالى، الا وهو جمع الصف الوطني ورتق النسيج الاجتماعي، فهذا ايضاً لن يتحقق الا باستيعاب كل أهل السودان معه، وكسب ثقتهم، ونيل وده، وكثرة نقده وانتقاده لهم تبعدهم عنه، وتباعد بينه وبينهم، وهذا ما لا نرجوه له ولهم.

أما الطرف الثاني وهو الصحافة والإعلام، فليس لأني منهم، ومن كبارهم في السن، وأطولهم في التجربة والممارسة، ولكن معركة الكرامة، ومن بعدها معارك التاسيس وإعادة البناء والتعمير يمثل الإعلام فيها راس الرمح، ولن ينطلق هذا الرمح ولن يصيب هدفا، إذا كان الرماة لا ينظرون الي ابعد من تحت اقدامهم، ويؤسفني أن أقول ان أزمة التصريحات الأخيرة، كان الإعلام هو بطلها الأول والأخير.

ففي حديث السيد عقار لمؤتمر ألخدمة المدنية حرص ناقلوه أن يقدموه مبتورا الشئ الذي اخل بالمعني وأخرج الحديث عن سياقه، ثم أن الصحافة والإعلام تجاوزت الرؤية الشاملة التي قدمها السيد عقار، وركزت علي إشارة نقد اصابت شخصا واحدا ليس طرفا أصيلا في الحكم ولا في العملية السياسية رغم المهام الكبيرة التي يضطلع بها.

اما حديث السيد عقار لمركز الشريف امس، وكنت حضورا وشاهدا ومشاركا، لا بد ان أشير الي ان هذا كان ترتيبه سابق بكثير جدا لحديث السيد عقار لمؤتمر الخدمة المدنية، وكان من الممكن ان يكون قبله، وحتي تنظيمه امس لم يكن الحديث عن ما إثارته الميديا عن خطاب مؤثر الخدمة المدنية جزءا منه، وإنما جاء ردا علي سؤال احد الزملاء، ولم يأخذ الرد عليه زمنا طويلا، ولم يتبرأ السيد عقار عن ما قال، ولكن أوضح ملابساته، وكيف ان النقل أخرجه عن سياقه، ولم يعتذر عن اصل الحديث ولكنه اعتذر عن الاستثمار السيئ لآخرين له لتصفية خصوماتهم مع اخرين، ومع ذلك تجاوز الاعلام حديث الساعة الذاخر الفاخر واهتموا بإبراز عنوان مبتور لا يعبر عن الحديث، ولا عن روح الجلسة الأفخر التي خص بها الملك المجموعة، وكارثة ان يكون العنوان المثير الخطير اهم من كل ما سواه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى