
لم تستوعب إحدي الأخوات دفاعي عن حق الدكتور عبد الله حمدوك في المشاركة في العملية السياسية، ورفضي بقوة قيادته الحكومة المقبلة، ولا حتى المشاركة فيها، وهنا لا بد أن أوضح الفروق بين المشاركة في الحكومة، والمشاركة في العملية السياسية، وكنت قد كتبت أكثر من مقال أوضحت فيها أن المشاركة في حكومة مرحلة التأسيس موقوفة فقط علي شركاء معركة الكرامة، وأن هذه الحرب الملعونة أول وأهم ما فعلت ايجابا أنها ردت الحق لأهله، وكما هو معلوم فإن الثورات في السودان تصنعها الجماهير، وتنحاز إليهم القوات المسلحة، تنزع الملك ممن ثار ضده الشعب، وتشرف علي مرحلة انتقالية، تجري في نهايتها انتخابات يختار فيها الشعب الذين ينتخبهم لقيادة الحكم.
ذات الشئ حدث في ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، ثارت الجماهير، فانحازت إليهم اللجنة الأمنية باسم القوات المسلحة، خلعت الرئيس السابق، وأسقطت نظامه، واستولت علي الحكم، إلا أن غياب الرؤية عندها وتشتت أفكارها أوقعها في أخطاء جسيمة، أولها أنها وضعت رأسها برأس أحزاب سياسية، ثم سلمتها كل قرار الشعب السوداني باسم المكون المدني، وسلمت الفريق خلا حميدتي رسن قيادة كل المكون العسكري، وصاروا كلهم تحت إمرة ما يسمي بالرباعية، أمريكا وبريطانيا والإمارات والسعودية، واستبعدوا مصر أخت بلادي الشقيقة، وارتريا جارة البحر الحبيبة، فكان طبيعيا أن ترد بلدنا وشعبنا موارد الهلاك، ويحمد للحرب رغم كل فظائعها المروعة، أنها جعلت الخبيث بعضه فوق بعض، ثم ركمته في مزابل التاريخ، وحررت إرادة شعبنا، ووحدت صفنا، خلف قواتنا المسلحة الباسلة، ومن هنا يكون الإنطلاق.
فحكومة مرحلة التأسيس يقودها شركاء معركة الكرامة وحدهم، وهي مرحلة ليس فيها مجال للمشاركة في حكمها لأي كيان سياسي، عدا شركاء سلام جوبا الذين صمدوا، ودافعوا عن الوطن، ودفعوا دماء وارواحا غالية في هذا السبيل، ومشاركتهم في الحكم ليست مكافأة لمشاركتهم في القتال، فهذه ليس لها ثمن، وهم قاتلوا من أجل الوطن، لا من أجل المناصب، ولكنها فقط من باب الوفاء بالعهود، ثم أن من قدموا للحكم في المرحلة السابقة قدموا نماذج مشرفة للحكم، مثلهم مثل غيرهم ممن قدمتهم القوات المسلحة والقوات النظامية الأخري، وهم الذين ذكرت في مقالات سابقة أن يستمروا حكاما للتأسيس، وتلك فرصة لنعيد استعراض المنظومة التي قدمناها من قبل، مع مبررات هذا التقديم.
فالسيد البرهان الذي رشحته للاستمرار في رئاسة مجلس السيادة، يكاد يكون عليه شبه إجماع بما أثبت من مقدرات خارقة في قيادة الجيش والشعب في أكثر الظروف تعقيدا حتى أسماه البعض “الكاهن” لبراعته في التحكم في مقود السفينة رغم الأمواج المتلاطمة، وزدت علي الناس بأن يحكم مرحلة التأسيس بالزي المدني، تمهيدا لقيادته المرحلة المقبلة رئيسا منتخبا من الشعب، يقف خلفه كل تيار الكرامة،
أما الملك عقار، فلقد اجتهدت كثيرا لأجد من يقاربه، ولو من بعيييد. في التجربة والحكمة، والاتزان والعقل، ووضوح الرؤية، لأقدمه مرشحا ثانيا لقيادة مجلس وزراء حكومة مرحلة التأسيس تحت إلحاح السيد عقار، وإصراره علي مغادرة كل ميادين السياسة، فور أن تصع الحرب أوزارها، ولما لم أجد بديلا مقاربا، ولم أجد من يدلني علي من يمكن أن يسد بعض ما يسده عقار، لم أجد غير أن أحشد القوي الوطنية الصادقة، للمشاركة معي في الضغط علي الملك، فقط حتى يعبر بنا عنق هذه الزجاجة،
الجنرالان كبش وود العطا، الشعب كله مبسوط منهما “أوي أوي” لذلك رشحت الكباشي لوزارة الدفاع وقيادة الجيش العامة، وود العطا لقيادة هيئة أركان القوات المسلحة،
وكل من احتك بسعادة الفريق مهندس مستشار إبراهيم جابر، خرجوا بانطباع واحد، أن هذا الرجل عبقري في مجال الاقتصاد والاستثمار لذلك رشحته لتولي وزارة الاستثمار،
ومن أركان معركة الكرامة الركينة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، مدير عام جهاز الأمن والمخابرات، “أمن يا جن” وشهادتي في الأخ مفضل غير مجروحه، فمعرفتي به دخلت عقدها الخامس ببضع سنين، منذ أن استقبلناه طالبا جديدا في مصر “برلوم” وكل الذين عرفوه، قبل أن تستوقفهم مهنيته، ونظراته البعيدة العاقبة، وقفوا عند أدبه وورعه، وذوقه في التعامل مع الناس، ومع احترامي له ولكثيرين من رجال الأمن، سمعت كثيرين يقولون “والله أخلاق وأدب مفضل دي ما أخلاق وأدب ناس أمن” وهذا هو المطلوب لمرحلة التأسيس
أما صديقي الدكتور جبريل إبراهيم، فيحول بينه وبين رئاسة مجلس الوزراء أمران، وجود ملك، وجبريل يتفق معي في أن عقار هو الأنسب، ثم أن وجود جبريل في قيادة وزارة المالية، مثل وجود البرهان في قيادة مجلس السيادة، ومثلما صدق البعض وهم يمزحون في وصف البرهان بالكاهن، فصدق المازحون والساخرون عندما أطلقوا علي جبريل ” فكي جبريل” فما يفعله البرهان وجبريل لا يفعله بشر عادي.
القائد مني أركو مناوي، يصح مثالا لكل قادة المشتركة، وهو أيقونته، وربنا يتقبل شقيقة عباس الذي استشهد في الصفوف الأمامية في معركة الكرامة وهو يدافع عن فاشر السلطان أبو زكريا آداب العصاة زول زول، أما السيد عبد الله يحي فمكانه محفوظ حيث أبلي بلاء حسنا، عندما كان وزيرا للطرق والجسور، والذين يعرفون السيد صلاح رصاص قطعا يعرفون، مكامن قوته، فيرشحونه إلى مقعد يسكب فيه مقدراته مساهمة في تأسيس دولة الكرامة.
إما المشاركة في الحياة السياسية فهي حق مكفول لكل أهل السودان، للأنصار والختمية، للتقدميين والرجعية، للصوفية والوهابية، للكيزان وقحت، لكل من هب ودب، فأول ما يجب معالجته في مرحلة التأسيس أدواء الاقصاء والاستعلاء الكاذب، فالسودانيون كثيرا ما ينقضون عزلهم بأيديهم جريا وراء ادعاءات كاذبة، ومزاعم واهمة، فالسوداتيون كلهم شئ واحد، ولا فرق في ذلك بين قادم وقديم، ولا بين من طغت زنجيته، أو طفت عنده ملامح دم آخر، فهذه مرحلة لا بد أن تقبر وتدفن معها كل أوهامها وأحلام، فالسودان وطن لكل سوداني طوله خمسة أقدام وثماني بوصات، وعيونه عسلية. ولا توجد به علامات مميزة.
فعلي السيد الرئيس أن يرعي استكمال الأجهزة والقوانين المطلوبة لضبط الحياة السياسية. ثم يتاح حق الممارسة للجميع، والقانون ياخد مجراه.