
حتى تتبدّل الأولويات… هل آن أوان إعادة تقييم الوجود العسكري السوداني خارج الحدود؟
كتب: محمد عثمان الرضي
شارك السودان في عملية عاصفة الحزم، وهي العملية العسكرية التي قادتها المملكة العربية السعودية ضمن تحالف عربي واسع، وانطلقت في السادس والعشرين من مارس عام 2015، بهدف دعم الشرعية في الجمهورية اليمنية ومواجهة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
وجاءت مشاركة السودان في ذلك التوقيت في إطار التزاماته الإقليمية والعربية، وانسجاماً مع رؤيته للأمن القومي العربي المشترك، حيث اعتُبرت العملية حينها ضرورة سياسية وعسكرية فرضتها تطورات المشهد اليمني.
أسهمت القوات السودانية المشاركة في تنفيذ مهامها ضمن منظومة التحالف وفق الخطط الموضوعة، واكتسبت خبرات ميدانية معتبرة في مسارح العمليات المختلفة، ما عزز من قدراتها القتالية والانضباطية.
وظلت هذه القوات تؤدي واجبها العسكري لسنوات، محافظة على حضور السودان الخارجي والتزامه بتعهداته، في وقت كانت فيه الأوضاع الداخلية مستقرة نسبياً مقارنة بما آلت إليه لاحقاً.
غير أن اندلاع الحرب في السودان بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع شكّل نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ الدولة، وفرض واقعاً أمنياً غير مسبوق يهدد وحدة البلاد وسيادتها.
هذه الحرب لم تعد مجرد نزاع مسلح، بل تحوّلت إلى معركة وجود حقيقية تمس بقاء مؤسسات الدولة ومستقبل الشعب السوداني، وتستنزف مقدراته البشرية والاقتصادية.
في ظل هذا الواقع، برزت الحاجة الملحّة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، وعلى رأسها توجيه كل الطاقات العسكرية نحو حماية الداخل والدفاع عن الأرض.
وأصبح السؤال المطروح اليوم مشروعاً ومنطقياً: هل ما زال من الممكن استمرار وجود قوات سودانية خارج الحدود، بينما تخوض البلاد حرباً مصيرية في الداخل؟
إن متطلبات الأمن القومي تفرض بالضرورة مراجعة شاملة لانتشار القوات، خاصة عندما تكون الدولة مهددة في عقر دارها وتواجه عدواً يستهدف كيانها ووحدتها.
فالقوات السودانية الموجودة ضمن عاصفة الحزم تمثل قوة مدرّبة وذات خبرة ميدانية، يمكن أن تُحدث فارقاً حقيقياً إذا ما أعيد تموضعها داخل مسارح العمليات الوطنية.
ولا يعني هذا الطرح التقليل من قيمة الالتزامات الخارجية أو التنكّر للعلاقات الاستراتيجية مع الأشقاء، بل هو قراءة واقعية لظرف استثنائي يتطلب قرارات استثنائية.
فالدول، وفق الأعراف والقوانين الدولية، من حقها إعادة تقييم مشاركاتها العسكرية الخارجية متى ما تعرض أمنها الداخلي لتهديد مباشر.
كما أن إعادة انتشار القوات لا تعني القطيعة مع التحالفات، بل قد تكون خطوة مؤقتة تُمليها ضرورات المرحلة وتفرضها حسابات السيادة الوطنية.
إن سحب القوات السودانية وإعادتها إلى الداخل اليوم قبل الغد يُعد خياراً استراتيجياً يصب في مصلحة معركة الكرامة واستعادة هيبة الدولة.
فالنصر في هذه المعركة سيمنح السودان موقعاً أقوى وقدرة أكبر على اتخاذ قراراته الخارجية من منطلق الاستقرار لا الاستنزاف.
أما الاستمرار في تشتيت الجهد العسكري بين الداخل والخارج، في ظل حرب ضروس، فقد يطيل أمد الصراع ويضاعف كلفته الإنسانية والوطنية.
لقد أثبتت التجارب أن الدول التي تنجح في حسم معاركها الداخلية أولاً، هي الأقدر لاحقاً على لعب أدوار إقليمية فاعلة ومتزنة.
ومن هنا، فإن الدعوة إلى إعادة تقييم الوجود العسكري السوداني خارج الحدود ليست موقفاً عاطفياً، بل طرحاً عقلانياً يستند إلى منطق الدولة ومصالحها العليا.
فالمعركة التي يخوضها السودان اليوم لا تُدار بالإنابة، ولا تحتمل تأجيل الحسم أو ترف توزيع القوات على جبهات بعيدة.
وبين التزامات الأمس وضرورات اليوم، تبقى الحقيقة الأوضح: الأولوية لمعركة الداخل، وحماية الوطن أولاً، حتى تتبدّل الأولويات ويستعيد السودان عافيته وسيادته كاملة.