
خفايا الحرب الأهلية الأمريكية (1861–1864) ومقاربتها بالمأزق السوداني الراهن ( 2023–)
بكري يوسف البُر
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يونس (19)
حين تتكلّم الجغرافيا بلسان الدم، ندرك معنى انتقام الجغرافيا، ونتبيّن خطايا سوء إدارة البشر والموارد في أرض واسعة كان يمكن أن تكون نعمة لا نقمة.
هناك لحظات في تاريخ الأمم تبدو فيها الخرائط كأنها تنطق؛ تتحرك خطوطها، تئن تضاريسها، وتتمتم بعبارات لا يسمعها إلا من عاش في صميم النزاع.
هكذا كانت الولايات المتحدة في ستينيات القرن التاسع عشر…
وهكذا هو السودان اليوم.
ففي كلا البلدين، لم تبدأ الحرب يوم دوّى الرصاص؛ بل حين تفرّقت الفكرة، وتمزّق الإجماع، وتُركت الثروات بلا إدارة، وتحوّلت الدولة من سقفٍ جامع إلى ساحة خصومة مفتوحة.
لم تكن العبودية وحدها سبب الحرب الأهلية الأمريكية؛ كانت، بالأدق، أبرز أعراض الانقسام بين شمالٍ صناعي حديث، وجنوبٍ زراعي يعتمد على العبيد ويؤمن بحكم محلي قوي.
وراء المشهد الأخلاقي للعبودية، كانت هناك معركة حول شكل الاقتصاد، تفسير الدستور، ومستقبل الاتحاد.
كان الأمريكيون يختلفون حول سؤال بسيط في ظاهره:
من يملك الدولة؟ ومن يحدد اتجاهها؟
وفي السودان، لا تنفجر الحروب بسبب ملف واحد؛ بل بسبب تاريخ طويل من الاختلال البنيوي،
دولة بلا تعريف متفق عليه، مجهولة الهُوية،
نخب سياسية تتوارث الريبة لا الثقة،
اقتصاد ريعي هش تتحكم به شبكات مغلقة،
وتنوع إثني وثقافي لم يُدار يومًا بمنهج دولة، بل بمنطق السلطة ودهاليز الاستغلال السياسي.
هكذا وُلدت الحرب في السودان:
من رحم تراكمات مؤلمة، بعدم ادراك و عجزنا و جهلنا في مواجهة الواقع.
في واحدة من أعقد لحظات بلاده، ظهر أبراهام لينكولن بشخصيته الجامعة بين الشرعية الدستورية، والحنكة السياسية، والرؤية الأخلاقية التي جعلت إنهاء العبودية جزءا من مشروع الدولة.
كان يعلم أن الحرب ليست نزاعا بين جيوش، بل بين فكرتين:
فكرة بقاء الاتحاد مقابل فكرة تفككه.
أما في السودان، فغياب القائد الجامع (جمل الشيل، عدّال الميل) ما زال غائبا في رحم التاريخ.
لم يبرز حتى اللحظة قائد يمتلك الكاريزما الموحدة، والشرعية الواسعة، والرؤية القادرة على تنظيم المجتمع حول مشروع واحد، لرؤية ثاقبة المستقبل.
انقسمت القيادات بين عسكريين وسياسيين وحركات مسلحة وزعامات جهوية… وكلّ يرى نفسه المنقذ، فيما يتآكل الوطن قطعةً بعد قطعة، وما نزال عاجزين عن تحويل الـ Politics إلى Policies، بعدما توارت الأيديولوجيات في زمن ما بعد المعلومات، وصار المطلوب قبل كل شيء هو خدمة المواطن عبر إدارة التنمية وتطوير الخدمات.
في كل حرب، كما في معظم دول العالم، يكون الاقتصاد هو الجبهة الخفية.
دخل الشمال الأمريكي الحرب بترسانة اقتصادية:
مصانع،
سكك حديد،
بنوك قوية،
موانئ نشطة،
واحتياطيات تفوق الجنوب الزراعي بمراحل.
أما في السودان، فتحوّلت الثروة إلى وقود للصراع:
الذهب،
المعادن النفيسة،
الصمغ العربي،
الأبقار،
الطرق التجارية،
الجمارك،
الأراضي الزراعية…
كلها وقعت تحت يد أطراف الحرب.
صار الذهب يمول المعركة بدل الدولة،
وصار الريع موردًا للمليشيات،
وبات الاقتصاد بتشوهاته جزءا من المشكلة لا مفتاحا للحل.
وفي تشابه آخر، حضرت التدخلات الخارجية.
في الحرب الأمريكية كانت الرغبات الخارجية بلا مقدرات؛ بريطانيا وفرنسا تعاطفتا مع الجنوب بسبب القطن، لكنهما لم تجرؤا على كسر التوازن مع قوة صاعدة مثل الولايات المتحدة.
أما في السودان، فالمشهد مختلف تمامًا:
دول تمول،
دول تسلح،
دول تؤوي،
دول تبتز،
ودول تربط الحرب السودانية بصراعات إقليمية أوسع.
صار السودان ساحة مفتوحة في لعبة أمم لا ترحم الضعفاء ولا المترددين.
وفي أمريكا، رغم الانقسام، كان الطرفان جيشين واضحين: قيادة موحدة، انضباط، تراتبية، ومشروع سياسي لكل جيش.
أما في السودان، فليست هناك حرب برأس واحد ولا جيش واحد:
جيش رسمي،
قوات دعم سريع،
مليشيات قبلية (أكثر من 100 حركة مسلحة)،
مجموعات محلية مسلحة،
وتدخلات أجنبية مباشرة وغير مباشرة.
إنها حرب بعدة رؤوس… وهذا أخطر أشكال الحروب، إذ تتوزع مفاتيح إيقافها بين أيد متباعدة، فيبلغ التهديد الوجودي ذروته.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب موحدة بالقوة، متوجهة إلى بناء اقتصاد صناعي، ومقبلة على عصر ازدهار حقيقي، ووضعت أسس صعودها كقوة كونية.
رغم الجراح، استطاعت صناعة قصة وطن أصبح من أقوى الإمبراطوريات في التاريخ.
أما السودان، فسؤاله ما يزال معلّقا على حافة السكين:
هل يخرج كمجتمع واحد؟
أم كجزر متباعدة لا يجمعها إلا اسم قديم؟
هل تتشكل دولة جديدة؟
أم ندخل زمن اللادولة؟ حتي عبر ترامب عن جهله بالسودان كأننا عنده كما يقول المثل العامي السوداني ( فَسوَّة بعير في الصحراء) لم يسمعها احد و لم يشمها احد.
ما لم يُحسم سؤال ماهية الدولة، ستظل البنادق هي التي تكتب السياسة و ترسم مستقبل السودان بالدم لا بالتفكير.
وقد صدق زيغمونت باومان حين قال:
«التاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالدماء والدموع والصمت.»
كانت الحرب الأهلية الأمريكية معركة على هوية الدولة.
والسودان اليوم يقف أمام السؤال ذاته، لكن بلا اتحاد قوي، ولا اقتصاد صلب، ولا قيادة موحدة… وذلك قدر أهل السودان في التشظي منذ دولة الفونج وحتى يوم الناس هذا.
ومع ذلك… ما يزال في هذا البلد رصيد من الروح لا تجده إلا في الأمم التي تأبى الموت.
فالسوداني لا ينكسر؛ لكنه يتعب ويُستنزف، وينتظر لحظة يلمع فيها ضوء العقل فوق ضباب الطموحات الشخصية والمحاصصات الضيقة والتهارج على سلطة خادعة.
هذه المقارنة ليست تمجيدا لأمريكا ولا جلدا للسودان الذي تمزق جلده بضربات أبنائه وصراعات الوكالة وتدابير الخارج الذي قص أظافره.
إنها محاولة لقول الحقيقة كما هي:
الدول لا تُبنى بالصدف،
ولا تنهض بالخطب،
ولا تُكسر طالما فيها رجالٌ ونساء يطمحون للبناء.
وإلى أن يحدث ذلك…
ستظل خفايا الحرب السودانية مفتوحة،
تكتب فصولها الريح،
وتشهد عليها أشلاء الضحايا والمهجّرون وضياع الأطفال وانكسارات الخواطر وحزن مقيم في كل سوداني وسودانية.
إلى أن ينهض جيلٌ يقرر أن يضع السيف جانبا، وينعتق من التشظي الاثني Ethnicity، ليبقى السودان وأهله؛ متسلحين بالمعرفة والحكمة، موقنين أن “المحن ضيفات”، وأن التفاؤل بالخير باب من أبواب الرزق.
حينها فقط… نكتب لتعافي سياسي حقيقي يرسخ لسلام اجتماعي يفتح الطريق لمشروع وطن.
فهل من مُجيب؟