مقالات

 زيارة البرهان إلى تركيا: التوقيت والتوقعات

خبر و تحليل

عمار العركي

* يغادر رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى أنقرة في زيارة رسمية بدعوة من الرئيس رجب طيب أردوغان، لبحث العلاقات الثنائية وتطورات الأوضاع في السودان والإقليم. والتى في ظاهرها تبدو بروتوكولية، لكنها في جوهرها تبدو حركة محسوبة ضمن تحركات إقليمية مزدحمة في اطار اعادة تشكيل خارطة النفوذ .

* في هذا السياق ، لم تعد الزيارات تُقاس بعدد “الملفات المعلنة”، بل بقدرتها على “إعادة ترتيب وتعديل موازين النفوذ. “فأنقرة” عنوان لاختبار توازن جديد، في لحظة يعيد فيها السودان تعريف تموضعه ، ليس “كملف أزمة”، بل كفاعل يسعى إلى استعادة هامش الحركة .

* كذلك ، لا يمكن قراءة الزيارة بمعزل عن زيارات البرهان إلى القاهرة والرياض. فالقاهرة تمثل العمق الاستراتيجي الأكثر حساسية، حيث تنظر إلى السودان بوصفه خط الدفاع الأول عن أمنها القومي الجنوبي، دولة موحدة، جيشًا نظاميًا، وحدودًا لا تحتمل الفوضى. أما الرياض، فتتعامل مع السودان من زاوية الاستقرار الإقليمي وأمن البحر الأحمر، دون شهية للتورط، لكنها أيضًا دون استعداد لترك فراغ تملؤه قوى منافسة. بين هذين الثقلين، تتحرك الخرطوم بحذر، مدركة أن الاعتماد على محور واحد لم يعد خيارًا آمنًا في إقليم سريع التحول.

* هنا تبرز أنقرة كخيار مختلف، لا لأنها بديل للقاهرة أو الرياض، بل لأنها تمثل نمطًا آخر من الشراكة. تركيا لا تنظر إلى السودان فقط كأزمة سياسية أو إنسانية، بل كفرصة استراتيجية مؤجلة، اقتصادًا وموقعًا ودورًا. وهي، بحكم عضويتها في حلف الناتو، وعلاقاتها المعقدة لكن المؤثرة مع الولايات المتحدة، تمتلك ما لا تمتلكه عواصم أخرى: القدرة على الحركة بين العواصم، وإيصال الرسائل، وإعادة تقديم الملفات السودانية من زاوية أقل تصادمية وأكثر براغماتية، خاصة في واشنطن والدوائر الأوروبية.

* في المقابل، لا يمكن تجاهل الحضور الإماراتي الكثيف في المشهد السوداني والإقليمي. حضور لا يُعلن دائمًا، لكنه يُلمس في الاقتصاد والموانئ واللوجستيات، وفي مساحات النفوذ الممتدة من القرن الأفريقي إلى البحر الأحمر. هذا التمدد وضع أبوظبي في حالة تزاحم صامت مع القاهرة في ملف الدولة الوطنية، ومع أنقرة في طموحات البحر الأحمر، ومع الرياض في إدارة توازنات الإقليم. وهو تزاحم لا يُدار بالتصريحات، بل بإعادة التموضع الهادئ، وهو ما تحاول الخرطوم فعله الآن.

* في قلب هذا الاشتباك، يفرض البحر الأحمر نفسه كعنوان صراع غير معلن. لم يعد مجرد ممر ملاحي، بل تحوّل إلى ساحة تتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية، . من هنا تكتسب ” اتفاقية توأمة الموانئ بين ميناء مرسين التركي وميناء بورتسودان” دلالتها الأعمق. كإشارة واضحة إلى دخول تركيا، بهدوء ، إلى معادلة الموانئ السودانية، ومحاولة لكسر الاحتكار غير المعلن لبعض الفاعلين، وفتح نافذة لشراكة اقتصادية طويلة النفس، دون صدام مباشر مع أي طرف.

* بالرغم من الإشارات والتصريحات الرئاسية التركية المتكررة عن استعداد أنقرة للمساعدة والمبادرة متى ما طُلب منها ذلك، إلا أن زيارة البرهان إلى أنقرة لا يُتوقع أن تنتهي بإعلان تحالف سياسي أو أمني صريح، بقدر ما تهدف إلى تثبيت شراكة متوازنة، تقوم على تأكيد احترام سيادة السودان ووحدة أراضيه، وتوسيع قنوات التشاور السياسي، دون إدخال الخرطوم في اصطفافات جديدة أو التزامات تتجاوز قدرتها في هذه المرحلة. فتركيا، بحكم تجربتها الإقليمية المعقدة، تدرك كلفة الانخراط المباشر في نزاعات مفتوحة، كما أن السودان لا يبحث اليوم عن مظلات ثقيلة، بل عن شركاء يفتحون له نوافذ، لا قيودًا. من هنا، تبدو الزيارة أقرب إلى إعادة تموضع هادئة، لا انقلابًا على تحالفات قائمة، ولا قفزًا في المجهول.

* المرجّح أن تنتقل المباحثات إلى مسارات عملية قابلة للتنفيذ، في مقدمتها التعاون الاقتصادي، ولكن بعقلية استثمار طويل الأجل لا دعم إسعافي مؤقت. فأنقرة تنظر إلى السودان كفرصة مستقبلية في قطاعات الإنتاج والزراعة والصناعة، خصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب، دون وعود مالية كبيرة أو التزامات عاجلة يصعب الإيفاء بها. وفي هذا السياق، يبرز ملف البحر الأحمر والموانئ بوصفه العنوان الأكثر حساسية. فالتقدم المتوقع في تفعيل اتفاقية توأمة الموانئ بين ميناء مرسين التركي وميناء بورتسودان لا يقتصر على تبادل خبرات فنية، بل يعكس رغبة في إدخال شراكة جديدة إلى معادلة الموانئ السودانية، بما يحسن الكفاءة التشغيلية، ويمنح السودان هامشًا أوسع لتنويع علاقاته البحرية، دون التفريط في السيادة أو تحويل الموانئ إلى أدوات نفوذ سياسي مباشر.

* تفتح الزيارة بابًا لدور تركي غير مباشر في إعادة تقديم الملف السوداني إلى واشنطن وأوروبا. “فأنقرة” بعلاقاتها المتشابكة مع الولايات المتحدة، قادرة على نقل قراءة أكثر توازنًا لطبيعة الصراع في السودان، وتخفيف حدة الخطاب الأحادي الذي طغى على التعاطي الغربي خلال الفترة الماضية.

*خلاصة القول ومنتهاه*

* لا تكمن أهمية زيارة أنقرة في بياناتها الختامية، بل في كونها خطوة محسوبة لإعادة تموضع السودان خارجيًا، وتوسيع هامش حركته في إقليم مزدحم بالتنافس. هي زيارة تقول، بلغة هادئة، إن الخرطوم لا تغادر تحالفاتها، لكنها ترفض الارتهان لمسار واحد، وتسعى إلى إدارة علاقاتها بمنطق التوازن، لا بمنطق ردّ الفعل، في لحظة لم يعد فيها الخطأ مقبولًا، ولا الفراغ مسموحًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى