
في دارفور… يموت الناس مرتين مرة بالرصاص ومرة بصمتكم
من أعلى المنصة
ياسر الفادني
هذه هي الحقيقة، لا تحتاج إلى شاهدٍ أو روايةٍ تُجمَّل، فدارفور تنزف على مرأى من العالم، والليل هناك طال حتى أكل الفجر، من قال إن الموت في الفاشر توقف بعد أن ألقى (أبو لو لو ) زوم كاميرته أرضًا وأغلق الزر، فقد كذب، الموت هناك لا يُغلق زرّه، ولا تُوقفه عدسة، الفيلم الذي صوّر أقذر ما عرفه الإنسان لم يكن النهاية، بل كان المقدمة لمسلسلٍ دمويٍ لا تُحصى حلقاته
منذ أن استباح الأوباش الأرض والعِرض، صار القتل في دارفور عادة، صار المشهد مألوفًا حتى للسماء، تتساقط الأرواح كل يوم كما تتساقط أوراق الشجر، والدم صار لغة التخاطب الوحيدة، الأشجار نفسها ذبلت من الحزن، لم تعد تثمر إلا الفجيعة، فكم من امرأةٍ عُلقت على فروعها متدلية، وكم من أطفالٍ التفوا حولها موتى كأنهم يلعبون في صمتٍ أبدي
الجثث هناك تُحرق لا لشيءٍ إلا لأن القتلة ضجروا من الحفر، النار أسرع، والرماد أيسر، وهكذا صار الحرق طريقةً لتوفير الوقت! تخيل أن تُختصر حياة إنسان في دقائق من لهب، بلا صلاةٍ، بلا وداع، بلا اسمٍ يُكتب على شاهدة، في دارفور، حتى الموتى يُسرق منهم حق الدفن
سجن دقريس يئن من داخله، تحيط به حفرٌ تُفتح كل يوم، قبورٌ جاهزةٌ تنتظر أجسادًا جديدة، من يحفرونها يعرفون أنهم أول من يسكنها ! الموت هناك لا يحتاج إلى إذن، والليل لا يعرف الصباح
الشمطاء الملعونة من أبيها ومن أهلها ومن شعبها، تمشي بخطوات متكبرةٍ فوق الرماد، أنثى ذئبٍ ترتدي ثوب النصر الزائف، تصور وتبتسم، كأنها لم تمر فوق أجسادٍ دفنتها الكاميرا قبل التراب، تلك هي الصورة التي تُعرض على العالم، فيضحك القتلة، ويصمت الجميع
الأطفال الذين كانوا يحلمون بالمدرسة، صاروا اليوم دروسًا في القتل الجماعي. الطفلة التي كانت تلاحق ظل أبيها كل مساء، تقف اليوم أمام جدارٍ خاوٍ وتسأل الظل: (متى يعود أبي؟) لكن حتى الظل هناك قُتل، اختنق بالدخان
العالم كله يعرف. أمريكا تعرف، ومن يبيع السلاح يعرف، ومن يكتب البيانات الباردة يعرف، لكنهم جميعًا يختبئون خلف بياناتٍ منمقةٍ بلغةٍ لا تشبه الألم، كلماتٍ حبرها دموع التماسيح، لا تُوقف رصاصةً ولا تُعيد طفلًا من قبره
دارفور اليوم مرآة الإنسانية المكسورة، كل كسرٍ فيها يعكس خيانة العالم، هناك، لا شيء يزدهر سوى الموت، ولا صوت يعلو فوق صمت المقابر، ليل دارفور بلا فجر، وقبورها بلا شواهد، لأن حتى الشواهد تُكسر، حتى الأسماء تُمحى
هذه هي الحقيقة…
دارفور تُقتل كل يوم، والعالم يتفرج،
في دارفور لا يموت الناس مرةً واحدة، بل مرتين مرة بالرصاص، ومرة بصمتكم