
مطار الجنينة الاقليمي
كتب : بدر الدين العتاق
لدارفور قضية وتحية ، ولها في نفسي تداعيات قلما أجد ما أكتبه حولها ، ربما أنتظر تراكم هذه التداعيات لتصبح فكرة أو مشروعاً لكتاب في الأيام المقبلة أن مد الله في الاجال.
سنة ١٩٩٨ ونحن في السنة الأخيرة من الجامعة قسم الدراسات الهندسية تخصص هندسة مدنية ، طلب منا المشرف الأستاذ الدكتور / عوض سعد حسن ، الذي كان مسؤولاً ومشرفاً على مشاريع التخرج بالنسبة للطلبة والطالبات في السنة الأخيرة من الجامعة ، وفيما بعد علمت أنه صار مديراً عاماً لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ثم أقيل عنها لاحقاً ، بينما كان مشرفا علينا نحن في جامعة النصر التقنية ، يساعده في الإشراف والمتابعة الأخ المفضال الحبيب المهندس/ محي الدين آدم الدومه ، المعروف ب ” محي الدين عكس ” ، لأنه كان كثير المعاكسة والمراجعة لأستاذنا المرحوم الدكتور / محمود زكريا ، الذي كان مسؤولاً عن القسم الهندسي لكل المستويات الدراسية في الجامعة ، ويساعد أيضاً الأستاذ الدكتور / عوض سعد حسن ، الأستاذ المهندس / محمد المعز ، وكان هو ومحي الدين عكس ، من أميز الطلبة وامهرهم في مادة التخصص الهندسي المدني مادة تصميم الانشاءات التي تفرق بين الحبايب لصعوبتها وتعقيداتها الرياضية ، والتي تعتمد اعتماداً كلياً على الرياضيات والاستاتيكا والتفاضل والتكامل المتقدمة ، / بالمناسبة هذه المادة أحرزت فيها أنا درجة جيد في السنة الأخيرة / ، وهذه المجموعة المتقدمة من الأساتذة ومساعدي التدريس كونوا لنا نواة جيدة حببت إلينا الدراسات الهندسية بكل أقسامها وتخصصاتها وصرنا من بعض زملاء مهنة بعدما كنا زملاء دراسة.
هذا ! تم تكليفنا من قبل الأستاذ الدكتور / عوض سعد حسن ، أنا ومجموعة من الزملاء / أطلقت عليها اسم ( مجموعة البؤساء ) وهي رواية أدبية باقية معروفة وشهيرة لفيكتور هوجو ، لضعفنا وتكاسلنا في سرعة الإنجاز والرسم والتصاميم والرسومات الفنية والمجسمات والتسليم وخلافه / بأن نقوم بتقديم مشروع التخرج ، واخترنا نحن أن يكون مشروعنا للتخرج ” مطار الجنينة الاقليمي” ، مكون من قسمين نظري وفني ، لاعتبارات تتعلق بالموقع الذي هو أقصى غرب دارفور ، ومن ناحية سياسية واجتماعية واقتصادية وخلافه ، وكانت فكرة تنفيذ فكرته ورؤيته وتقديمها للجامعة ومن ثم للدولة أن يكون المطار رابطاً بين المطارات الدولية والمحلية والإقليمية بحكم موقعه الجغرافي المتميز في وادي كجا بمدينة الجنينة وهي منطقة تقع وسط القارة الأفريقية جغرافياً مما يسهل مستقبلاً أن تكون نقطة ملاحة جوية عالمية ومن ثم مركز تجارة عالمي كما لا يخفى العائد المادي الذي يحققه على المستوى الوطني والمحلي بالتحديد ، وكذلك الإسناد المجتمعي بحيث يضع مجتمع دارفور في مصاف الحداثة والتطور الاجتماعي المدني مما يحقق مفهوم الفدرالية من طرف خفي.
لعلك تسألني أيها القارئ الكريم كيف خطرت لنا الفكرة ونحن طلبة لم تتجاوز أعمارنا الخامسة والعشرين من العمر ؟ أجيب عليك : حقيقة كانت هذه الفكرة بناءً على ما سبق ، وضمنت في البحث العلمي الأكاديمي النظري المرفق مع الرسومات الهندسية والفنية الإنشائية والمجسمات وخلافه ، ولعل الجامعة لم تحتفظ بكل تلك المشاريع التي يقدمها الطلبة للجامعة والدولة أو اقلاها لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، لكثرتها سنوياً مما تسبب ازدحاماً كبيراً في مخازن الجامعة فيضيق عليها المكان بلا شك ، لكن يمكن أن نقول إن مرحلتنا السنية كانت أعلى إدراكاً ووعياً من إدراك ووعي الطلبة اليوم ، ربما .
أما أنا العبد لله فقد احتفظت بالبحث في مكتبتي الخاصة حتى يومنا هذا بالسودان ، وقمت بتطويره ودعمه بالمزيد من الدراسات والصور ، وهو خلاف النسخة المقدمة لمشرف المشاريع ، مزيدة ومنقحة ، بينما كان مجسم المطار ضخماً للغاية فتفرق أيدي سبأ بيني وبين صديقي وزميلي المهندس / محمد الطيب ، وكذلك أضيعت الرسومات الهندسية المعمارية والمدنية للأسف الشديد.
لم أتمكن من زيارة الموقع الجغرافي عملياً لأخذ عينات التربة والمقاسات والخرط الكنتورية وخلافه ، ومن ثم تحديد مقاييس الرسم تمهيداً للتنفيذ لاحقاً ، ولم تتم الزيارة لأسباب عديدة منها بل أهمها الناحية المادية ، فقد كنت أدرس بمبلغ كبير للغاية آنذاك فوق طاقتنا وأسرتي وهو مبلغ أربعون جنيها ( ٤٠ جنيهاً ) للعام الدراسي الواحد مضمن قيمة البطاقة الجامعية ورسوم التسجيل ، وكنت أعاني وزملائي من هذا الجانب أشد المعاناة ، وجانب آخر ، هو كثافة المواد الهندسية للتخصص ، فلا يمكن مغادرة الجامعة وأغيب لعدة أسابيع خصماً على بقية المواد الهندسية ، وأسباب أخرى مذكورة في كتابي ” ملتقى السبل ” ، فليراجع في موضعه من الكتاب إن شاء الله.
فيما بعد ، أي بعد التخرج بفترة حوالي أربع سنوات تقريباً ( ١٩٩٨ – ٢٠٠٢ ) ، أسست شركة هندسية مع الأخ المرحوم المهندس / ابراهيم عبد الله محمد آدم ، وهو من أبناء دارفور مدينة نيالا ، وهو أول من نفذ طريق نيالا كاس زالنجا مع شركة ألمانية سنة ١٩٨٣ تقريباً وكان رجلاً ذكياً للغاية ، وعلمت فيما بعد أنه لم يكن مهندساً لكنه مارس الهندسة المدنية قسم المساحة عملياً حيث لم يدرسها أكاديمياً ، فاصطلح عليه بالمهندس ، ولا تثريب ، ونحن في مجال سوق العمل قدمنا دراسة لتنفيذ مشروع جامعة نيالا مكتمل الأركان ، وأذكر حتى الآن أن التصميمات المعمارية والمدنية موجودة في مكتبتي الخاصة بالسودان ، وبذلت فيها الجهد الكبير لأن تكون واقعاً ملموساً في الأرض ولكن قدر الله غير ذلك ، فلم ننفذها نحن ولكنها نفذت فيما بعد هي والمطار ، ” مطار الجنينة الاقليمي ” الذي اختير له اسم “مطار صبيرة الدولي” وعلمت فيما بعد أن المطار والجامعة دمرتا تدميراً شاملاً كاملاً والله المستعان.
هذا ! لم تنته علاقتي بأعمال التنمية المستدامة في دارفور عند هذا الحد ، بل استمرت لتشمل فكرة مشروع تنمية وإعادة التنمية بإقليم دارفور بعد توقيع اتفاقية الدوحة للسلام ٢٠١١ على ما أذكر ، وقدمنا للعطاء بتأهيل البنية التحتية للتعليم والترحيل والأعمال الخرسانية والحفريات ، ولأسباب سياسية أغلب الظن لم يرس علينا العطاء رغم استيفاءنا شروطه وضماناته المالية ، وأذكر أن الدكتور / تجاني السيسي ، كان هو حاكم إقليم دارفور بعد تنحي الجنرال مناوي عن المنصب ، ثم كانت تبعاته المالية من صندوق الإعمار والتنمية في أكثر من ستة وثلاثين مصفوفة تنموية شاملة معقدة وحقيقية ، ولكن يفعل الله ما يشاء.
ثم مشروع آخر ، هو مشروع المجمعات السكنية والتجارية والاستثمارية الرأسية فيما بعد ، وهممت أن أقدم هذه الأطروحة لمعالي السيد حاكم إقليم دارفور الحالي أو رئيس الجمهورية أو والي ولاية دارفور المعنية أيا كانوا ، لينظروا إليها قضية حقيقية حتمية التنفيذ إذ أن الوضع في إقليم دارفور من كل النواحي الحياتية ليس آهلاً بالسكن والحياة ومع تقدم فكرة العمل الهندسي المدني والتطور العمراني العالمي مقارنة بما يعانيه أهل دارفور تحديداً والسودان عموماً ، لهو جدير بالذكر لإعادة البنية التحتية لتصلح للحياة فإن إنسان المنطقة لهو أجدر بالعيش الكريم بلا شك.
ربما تطورت الأفكار عندي بضرورة توسعة ماعون التنمية المستدامة إلى العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لمسرح الحياة السودانية في دارفور وكردفان والنيل الأزرق وما أشبه ، إذ أن فكرة إنشاء وتكوين مشروع واحد أو عشرة مشاريع غير كافية لاستدامة السلام والاستقرار والتنمية ، فمظلة العمل السياسي أشمل وأجل وأكبر من النظرة الآحادية ( شركات القطاع الخاص ) من أجل تحقيق الربح المالي الشخصي ومن ثم العيش الكريم منفرداً ، فهذا خطأ ! والصواب أن تكون البنية التحتية لكل السودان وأهل دارفور تحديداً هي محط أنظار الجميع وموضع التنفيذ حالما تتوفر الإرادة السياسية والأمن والاستقرار بطبيعة الحال .
أقول : لازمتني فكرة إعمار دارفور وكردفان والنيل الأزرق والسودان عموماً ، منذ أنا طالب في الجامعة قبل ثلاثين سنة ، أضع مقياس الرسم على الخارطة واكتب فكرتي على الأوراق لتتحور وتتطور إلى ما لا نهاية ولتتحول لاحقاً إلى واقع ملموس وليكون السودان أولاً والسودان دائماً ، وتبقى القبعات مرفوعة لإقليم دارفور وأهلها الطيبين وإن طال السفر ويبقى الامل معقوداً بالله أن يحقق الأفكار والطموح إن شاء الله.