
منتدى الدوحة : يُعيد تعريف السودان ويدعم الانتقال
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
شهد معهد الدوحة للدراسات العليا يومي 4 و5 أكتوبر 2025، انطلاق فعاليات منتدى الأمن الغذائي في السودان، تحت شعار: “شراكة فاعلة لتحقيق الأمن الغذائي في ظل الأزمات”. وقد جاء المنتدى في توقيت بالغ الحساسية، سياسيًا واقتصاديًا، حيث يواجه العالم العربي تهديدًا متزايدًا في أمنه الغذائي بفعل النزاعات، وتغير المناخ، وسلاسل الإمداد المضطربة.
لكن الرسالة السياسية الأهم التي حملها المنتدى، تتمثل في إعادة تعريف السودان كجزء من الحل، لأزمة الغذاء ، في المشهد العربي، وهو ما عبّرت عنه بوضوح مشاركة وزير الزراعة والري السوداني بروفيسور عصمت قرشي، والذي جاء محمّلًا برؤية واضحة وبمواقف عملية وتفاعل مباشر، يعكس رغبة الحكومة السودانية في الانتقال من مرحلة الخطاب السياسي والأمني إلى مراحل تسويق الفرص والحلول العملية.
السودان يمتلك 174 مليون فدان صالحة للزراعة، منها أكثر من 106 مليون فدان غير مستغلة حتى الآن، فضلًا عن موارد مائية هائلة يمكن أن تُعاد هيكلتها واستثمارها بصورة أفضل، خاصة في ظل تغير الواقع المائي في شرق أفريقيا بعد إنشاء سد النهضة.
فبينما ينظر للسد في بعض الأوساط كتهديد محتمل للسودان ومصر ، فإن السودان إذا أحسن استثمار مياه النيل الأزرق وتوظيفها وتوزيعها، يمكنه أن يحصد فترات ري مستقرة ومنتظمة، توفر بيئة زراعية أكثر استقرارًا مما كانت عليه في العقود الماضية، وتُمكن من التخطيط لمحاصيل استراتيجية تخدم السودان والأمن الغذائي العربي.
وهذا ما حول المنتدى من مجرد ندوة علمية إلى منصة لتوجيه رسائل سياسية وإقليمية، أهمها: أن السودان، رغم أزماته السياسية والاقتصادية، ما يزال مؤهلًا ليقود مبادرة عربية جماعية للأمن الغذائي، بشرط دعم عربي منظم بعيدا عن الأطماع، وإصلاح داخلي شجاع وسياسات جاذبة.
الظهور اللافت لوزير الزراعة والري السوداني، عصمت قرشي، كان محوريًا في إيصال رسالة سياسية واضحة: أن الحكومة السودانية تنظر للزراعة باعتبارها طوق النجاة الاقتصادية للسودان، وأداة فاعلة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني وتحقيق شراكة استراتيجية مع العالم العربي، خاصة في ظل انهيار القطاعات الإنتاجية الأخرى بسبب الحرب والنزاعات.
مشروع الهواد الزراعي، الذي يعد أحد أكبر المشاريع التنموية الزراعية المطروحة حاليًا في السودان، بمساحة تزيد عن خمسة ملايين فدان، وامتداد جغرافي يشمل ولايات مثل نهر النيل، والخرطوم، والجزيرة، والقضارف، وكسلا. المشروع لا يقوم فقط على فكرة الإنتاج الزراعي، بل على بناء نموذج متكامل يشمل البنية التحتية، والإنتاج الحيواني، والتصنيع، والخدمات، في شراكة مرنة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية .
هذا النموذج، إذا قُدّر له أن يجد شركاء جادين، مثل دولة قطر أو المملكة العربية السعودية، يمكن أن يشكّل نواة لنهضة زراعية حقيقية. فالمملكة، من جهتها، راكمت تجربة مهمة في الاستثمار الزراعي الخارجي، وتحتاج اليوم إلى أسواق أكثر استقرارًا و إنتاجية.
والسودان يظل الأقرب جغرافيًا، والأغنى بالموارد، والأكثر استعدادًا، إذا تم تهيئة البيئة القانونية والمؤسسية، لاستقبال استثمارات خليجية طويلة المدى. مثل هذا التعاون لا يُقاس فقط بالعائد المادي، بل بالوزن الاستراتيجي الذي يمكن أن تضيفه الزراعة السودانية لمنظومة الأمن الغذائي العربي.
ما يجعل هذه الرؤية قابلة للتطبيق هو تزايد الشعور في الأوساط الإقليمية بأن السودان، إن أُهمل، قد يتحوّل إلى ثغرة لا يسدها الدعم الإنساني مهما تضاعف، وأن بناء قدراته الذاتية هو المسار الأكثر فاعلية وكفاءة. وهذا ما أكده رئيس معهد الدوحة للدراسات ، عبد الوهاب الأفندي، حين أشار إلى أن الأمن الغذائي لا يمكن أن يتحقق بإغفال دور المزارعين أنفسهم، ولا عبر السياسات المرتبكة، بل من خلال إصلاحات جذرية تضمن كفاءة السوق، وعدالة التوزيع، ومهنية التخطيط.
لقد تميز المنتدى، كذلك، بدمج رؤية الأكاديميين والباحثين مع الخبرات الميدانية، حيث قدّم رجل الأعمال السوداني وجدي ميرغني ورقة علمية مدعمة بالخرائط والأرقام، تناولت واقع الزراعة في السودان، بما فيه من هموم وفرص وتناقضات. ما طُرح كان توصيفًا صريحًا لعجز الإنتاج، وانخفاض الكفاءة، وغياب الحوكمة، وفي الوقت نفسه، رؤية استراتيجية لما يمكن أن يكون عليه السودان بحلول عام 2031، إذا ما أُطلقت مشروعات إنتاجية حديثة تقوم على التكنولوجيا والحوكمة الرشيدة.
كل ذلك، جعل من المنتدى منصة تطرح، ضمنًا، السؤال الكبير: هل نحن أمام لحظة تحول حقيقية في النظرة إلى السودان؟ هل سيبقى في هامش الحسابات الإقليمية، أم أننا بصدد لحظة إدراك ناضجة، بأن السودان ليس عبئًا، بل رصيد استراتيجي؟ الإجابة على هذا السؤال لا تأتي من وعود المؤتمرات وحدها، بل من قدرة الأطراف على تحويل هذه النقاشات إلى أطر تنفيذية، تُبنى على أساسها شركات، وتُوقّع بموجبها اتفاقيات، ويُعاد فيها تعريف العلاقة بين الدولة والمستثمر، وبين الأرض والقانون.
وقد كان الحضور القطري لافتًا، من خلال مشاركة مؤسسات مثل صندوق قطر للتنمية والهلال الأحمر القطري وقطر الخيرية، في إشارة واضحة إلى التزام قطر بدعم السودان، عبر شراكات استراتيجية تهدف إلى تعزيز قدراته الإنتاجية، لا سيما في القطاع الزراعي.
وتُظهر هذه المشاركة القطرية إدراكًا عميقًا بأن الاستثمار في الزراعة بات ضرورة استراتيجية في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه المنطقة في مجالي الغذاء والمياه. حيث أشار الدكتور أيهب سعد، عميد كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات، إلى التناقض الكبير بين الإمكانات الزراعية الهائلة للسودان، وبين ضعف الإنتاجية الفعلية؛ حيث يشغّل القطاع الزراعي نحو 60% من القوى العاملة، لكنه لا يسهم بأكثر من 30% من الناتج، مرجعًا ذلك إلى نقص البيانات الدقيقة والدراسات المتخصصة، مما يعيق التخطيط الفعّال ووضع السياسات المناسبة للنهوض بهذا القطاع الحيوي.
ما طرحه منتدى الدوحة بحسب #وجه_الحقيقة لم يكن مجرد توصيات فنية، بل رسالة سياسية واضحة: السودان رغم تحدياته، لا يزال يمتلك القدرة على تقديم حلول للأمن الغذائي العربي إذا استُثمرت إمكاناته بالشكل الصحيح. المطلوب الآن هو الانتقال من الحديث إلى العمل الميداني العاجل، لأن الوقت لا ينتظر. يمثل المنتدى بوصلة استراتيجية تؤكد أهمية دور السودان في هذا المجال، والفرصة الحقيقية للشراكة الزراعية التي يجب استثمارها قبل أن تتفاقم أزمة الغذاء وتأثيرات المناخ .
دمتم بخير وعافية.
الخميس 9 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com