
من ذاكرة الفن السوداني الشاعر والاديب محمود ابو بكر
ولد الشاعر محمود ابو بكر عام 1918م . التحق بمدرسة الراهبات الأمريكية بمدينة عطبرة ، ثم مدرسة الابيض الابتدائية ، ومنتقلا حتى تخرج من كلية غردون التذكارية عام 1930م ليعمل مترجما بمصلحة السكة حديد ، وفي قترة تعليمه كان والده ابو بكر حسن يعمل بقودة دفاع السودان برتبة (البكباشي) ، وحين تم حل قوة دفاع السودان بعد احداث 1924م تم تحويله لقوات البوليس ليعمل مأمروا على أمدرمان ، وانتقلت الاسرة لتقطن بحي الامراء بأمدرمان .
بدأ الشاعر محمود ابو بكر حياته الادبية في الثانية عشر من عمره ، وكان والده يطلب منه الانتباه إلى دراسته ، ولكنه رد على ابيه بتفوقه في كل مراحله الدراسية واحرزاه المراكز الأول حتى تخرجه من كلية غردون التذكارية ، مما جعل ابيه يغير من نظرته إليه .
شاءت الظروف أن تجعل منه عسكريا ، حيث قامت بريطانيا بفتح المدرسة العسكرية (الكلية الحربية حاليا) انذاك استعدادا لدخول الحرب ، وعمدت المخابرات البريطانية على اشاعة منح السودان الاستقلال اذا هم حاربوا إلى جانبها . وكحال الكثيرين من ابناء السودان تحرك شاعرنا محمود ابو بكر من مدينة عطبرة إلى الخرطوم استجابة لنداء الواجب الوطني ، وانضم إلى العسكرية بنية الحصول على الاستقلال من بريطانيا ، وقد سخر منه صديقه المحامي الأديب (عقيل) بتركه للوظيفه والانضمام إلى العسكرية ، وقد خلق هذا الامر بينهما مساجلات شعرية ، وخرج من هذه المساجلات قصيدة جميلة مشهورة (صه ياكنارى ) بمثابة رد على صديقه عقيل وقد تغنى بهذه القصيده الراحل الفنان اسماعيل عبد المعين بعد ان لحن جزء منها .
صه يا كنار وضع يمينك في يدي
و دع المزاح لذي الطلاقة و الدد
صه غير مأمور وهات مدامعا
كالارجوانة وابكي غير مصفد
ودع بدمعك من تحب فإنني
أنا إن دعوتك لن تعيش إلى غد
فاذا صغرت فكن وضيئا نيرا
مثل اليراعة في الظلام الأسود
و إذا وجدت من الفكاك بوادرا
فابذل حياتك غير مغلول اليد
فإذا إدخرت إلى الصباح بسالة
فأعلم بأن اليوم أنسب من غد
و أسبق رفاقك للقيود فإنني
اّمنت أن لا حر غير مقيد
و أملأ فؤادك بالرجاء فإنها
بلقيس جاء بها ذهاب الهدهد
فإذا تبدد شمل قومك فأجمعا
فإذا أبوا فأضرب بعزمة مفرد
فالبندقية في بداد بيوتها
طلعت بمجد ليس بالمتبدد
صه يا كنار و دع يمينك في يدي
فكأن يوم رضاك ليلة مولدي
أنا كم رعيتك والأمور عصية
و بذلت فيك كل ما ملكت يدي
و جري فؤادي نحو قلبك سلسلا
لكن قلبك كالأصم الجلمد
صه يا كنار فما فؤادي في يدي
طورا أضل و تارة لا أهتدي
و لأنت أعلم كيف أقتنص الهدى
حتى قنصت به سهاد الجدجد
و أري العوازل حين يملكنا الظمأ
فأموت من ظمأ أمام المورد
و أرود أرجاء البيان مداجيا
فأضيق من أناته بالشرد
أنا يا كنار مع الكواكب ساهر
أسري بخفق وميضها المتعدد
وعرفت أخلاق النجوم فكوكب
يهب البيان و كوكب لا يهتدي
و كويكب جم الحياة و كوكب
يعصي الصباح بضوئه المتمرد
أن كنت تستهدي النجوم فتهتدي
فانشد رضاي كما نشدت وجدد
و إن كنت لست تطيق لومة لائم
فأنا الملوم على عتاب الفرقد
صه يا كنار فبعض صمتك مسعدي
حتي شدوت فجاء شدوك مسعدي
و فضيلة بين التبسم و البكاء
لو تعلمون تجلد المتجلد
و تأمل ملأ التأمل حسنه
و كساه من حلل الأصيل العسجد
ألم تأجج في ثيابك لم يكن
ليزول دون أهابك المتوقد
غربت به الأيام وهي عوابس
فقضيتهن مودعا في الموعد
صه يا كنار فبعض صمتك موجع
قلبي و موردي الردى و مخلدي
أرأيت لولا أن شدوت لما سرت
بي سارياتك والسرى لم يحمد
أنا لا أخاف من المنون و ريبها
ما دام عزمي يا كنار مهندي
سأذود عن وطني وأهلك دونه
في الهالكين فيا ملائكة أشهدي
وله أيضا قصيدة أخرى (ايه يا مولاي) والتي تغنى بجزء منها الفنان الراحل خضر بشير .
ﺇﻳﻪ ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻱ ﺇﻳﻪ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺷﺘﻬﻴﻪ
ﻭﺟﻤﺎﻝ ﺃﻧﺖ ﻓﻴﻪ ﺑﻐﻴﺔ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﻨﺰﻳﻪ
ﻋﺴﻌﺲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻓﻨﺎﻣﺎ ﻭﺇﻛﺘﺴﻰ ﺍﻟﻮﺍﺩﻱ ﻇﻼﻣﺎ
ﺇﻥ ﻳﻜﻦ ﺻﻤﺘﻲ ﺭﻫﻴﺒﺎ ﺇﻥ ﻓﻲ ﺻﻤﺘﻲ ﻛﻼﻣﺎ
ﻭﺃﺭﻯ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺗﺠﻠﻰ ﻓﻮﻗﻪ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺗﺪﻟﻰ
ﻋﺠﺒﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻟﺒﺪﺭ ﻣﻨﻚ ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ ﺇﺳﺘﻈﻞ
ﻭﺃﺭﻯ ﺍﻟﺒﺎﺭﻕ ﺣﺎﻛﻰ ﺑﺎﺭﻗﺎ ﺃﺑﻜﻰ ﻣﻼﻛﺎ
ﻣﺎ ﺑﻜﻰ ﺍﻷﻓﻖ ﻭﻟﻜﻦ ﺇﺫ ﺭﺃﻯ ﺩﻣﻌﻲ ﺗﺒﺎﻛﻰ
ﺍﺳﻘﻨﻲ ﺧﻤﺮ ﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﻧﺨﺐ ﺣﺐ ﻭ ﻭﻓﺎﺀ
ﺃﻧﺎ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﺭﺍﺋﻲ ﺑﻌﺾ ﺁﻳﺎﺕ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ
ﻓﺎﺭﺩﺩ ﺍﻟﻜﺄﺱ ﺇﻟﻴﺎ ﻛﺴﺮﻫﺎ ﻏﺎﻟﻲ ﻋﻠﻴﺎ
ﺇﻧﻬﺎ ﺃﺭﻭﺕ ﻇﻤﻴﺎ ﻭﺍﻓﻴﺎ ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺣﻴﺎ
ﻭﺃﺭﻯ ﺍﻟﺒﺎﻥ ﺗﺜﻨﻰ ﻭﻟﻪ ﺍﻟﺒﻠﺒﻞ ﻏﻨﻰ
ﻓﺄﻋﻠﻤﻲ ﻳﺎ ﻫﻨﺪ ﺃﻧﺎ ﻧﻜﺘﻢ ﺍﻟﺤﺐ ﻭنغني
ﺫﻫﺒﻲ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺳﺎﺟﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺣﻠﻮ ﺍﻟﻠﻔﺘﺎﺕ
ﻭﺣﻴﻲ ﻻ ﻳﺤﻴﻴﻚ ﺑﻐﻴﺮ ﺍﻟﺒﺴﻤﺎﺕ
ﻋﻠﻤﻮﻩ ﻭﻫﻮ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻛﻴﺪ ﺍﻟﻌﺪﺍﺓ
ﻟﻴﺘﻨﻲ ﻋﻠﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺻﻞ ﻭﺗﻜﺬﻳﺐ ﺍﻟﻮﺷﺎﺓ
وفى ليبيا كتب الشاعر محمود ابو بكر واحدة من اجمل قصائده ، وقام بالقائها على حشد اجتمع في النادى العربي ببنغازى عام 1941م احتفالا بقدوم عيد الفطر المبارك ، وقد تحدث عن مستقبل الشعب الليبي وعن القائد الذى سوف يظهر من بين صفوف الشعب الليبي يحمل عنه الحزن والألم ، والقصيدة كانت ردا على زميلا له سخر من الواقع المعاش خلال تلك الفترة ، ومطلع القصيدة يقول :
كتفاحة نبتت بعزم
رماها مالك ورقى رقيا
لبثت في ارضهم ومكثت فيها
كما يممت بالسودان حيا
كأن بالزمان وقد تراءى
وأنشأ بينهم رجلا فتيا
ليرمقوا راية ويعزوا مجدا
وتخضر الوهاد به مليا
يعمر عامر الصحراء نورا
ويروى جدبها خصبا وريا
ومن قسمت له الايام حظا
يجد فى البئر ان هبط الثريا
واثناء فترة الحرب كان شاعرنا محمود ابو بكر ضمن القوات السودانية التى قاتلت في شمال افريقا وفي ليبيا بالتحديد ، اصيب في احدى المعارك مما تطلب نقله إلى المستشفى العسكرى بمدينة بنغازى الليبية ، وخلال فترة العلاج كتب الكثير من الاشعار الجميلة تعبر عن مدى حبه واشواقه إلى السودان ، وكانت من بينها اغنية (زاهي فى خدره) التي تغنى بهاالفنان الراحل احمد المصطفى .
زاهي في خدرو ما تكلم
إلا يوم كلموا وتكلم
حن قلبو و دمع سال
هف بي الشوق قال وقال
باهي كل ما قالو كلمة
خت كلمة كالنبال
لو تراهو .. في سماهو
النور كساهو الجمال
كنت تعلم .. كيف جهنم
تحرق الجنب الشمال الشمال
قالوا ليهو القطر تقدم
و كفرة نيرانا زي جهنم
حن قلبو ودمعوا سال
هف بي الشوق قال وقال
كلموه .. ألموه
علموه الإنفعال
أرخى سمعو
و أجرى دمعو
البرق سمعو .. كال وهال
كم تألم .. ما تكلم
إلا تمتم في المقال
في المقال
زي لسان الرضيع كليمو
كلامو جوهر .. و سط بسيمو
ياتو في الجوهر المقال
هف بي الشوق قال وقال
إيدو عندم .. ريقو زمزم
طهر مريم في المثال .. في المثال
صدرو رمان فيهو عايم
و طرفو ساهي وحزامو خاتم
و جسمو من نقش توبو شال
هف بي الشوق
قال وقال
قلبي دايرو كيف أسايرو
في مسايرو نجمي ضال
في عيونو وفي سنونو
و من فنونو الموت حلال
الموت حلال
ومن اشهر قصائده قصيدة (العامرية) التي كتبها بعد سماعه النبأ بولادة اول طفلة له .
كان يحضر شاعرنا المنتديات الادبية التي تقام بأمدرمان ، ومن اشهرها ندوة الاديب الشاعر الراحل عبد الله حامد الامين . كما ربطته علاقة مع الشيخ الطيب السراج وقد تخللتها مساجلات شعرية ، وعلى سبيل المثال نذكر منها القصيدة التي عاتبه فيها الشيخ الطيب السراج على غيابه عنه والتي يقول فيها :
فديتك لم تشبع ولم ترو من هجري
ايستحسن الهجران اكثر من شهر
اراني ساسلو عنك ان دام ما ارى
على ثقة فيما أظن ولا ادري
فرد عليه الراحل محمود ابوبكر :
ضربت فما اخطأت نحري ولا نحري
ومن عادة الصمصامة القضب ان يغري
ومن لم ينل من شفرة السيف غاية
نال كل ما يبغيه من شفرة الشعر
تقاعد الشاعر محمود ابو بكر بعد الاستقلال على رتبة (رائد) عام1957م ، وعاد للعمل مترجما بوزارة الاستعلامات حتى داهمه المرض ليرقد بمستشفى السلاح الطبي بامدرمان حتى فاضت روحه الطاهرة إلى ربها عام 1970م .
رحل من دنيانا الفانية تاركا تراثا اشتمل على ترجمة بعض الكتب العسكرية وعمل الجسور وعدة مؤلفات منها (ديوان الكواكب بابل فى السنة البابلية ) ورواية مسرحية بأسم (اميرة البحرين) ، ومجموعة قصائد متناثرة . وكان ايضا فنانا وخطاطا ورساما وموسيقيا يجيد العزف على مختلف الآلات الموسيقية .
رحم الله تعالى الشاعر محمود ابو بكر وانزل السكينة على قبره .