
تأملات
جمال عنقرة
أبو هاشم .. دخري الحوبات
أسرتنا – أسرة الأمير النور عنقرة – ليست مثل كثير من الأسر الأنصارية العريقة في السودان، ويبدو أن تعدد وتنوع زوجات الأمير قد ساعد علي انفتاح واسع علي كل قبائل ومدائن وثقافات أهل السودان، وكما هو معلوم فان عدد زوجاته قد بلغ خمس عشرة فوق المائة، انجب منهن مائة وثلاثة من البنين، وتكوين الأمير نفسه متفرد فهو بديري دهمشي، ومشلخ شايقي، ويرطن دنقلاوي، مولود في الشمالية، نزل حلفاية الملوك، هاجر إلى مصر، عمل في الجيش المصري، عاد الي حلفاية الملوك سافر الي جنوب السودان رفقة الزبير باشا، حكم دارفور من كبكابية في عهد غردون، ثم صار قائداً لحامية بارا في كردفان، بايع الامام المهدي شارك في تحرير الأبيض وصد حملة النيل، وأخمد تمرد القردود، قاتل في الحبشة، وقتل ملكها واستقر في القضارف (ديم النور) وانتهي له المقام في امًدرمان الي ان توفاه الله عام ١٩٢٤م ودفن في مقابر احمد شرفي يرحمه الله.
هذا التنوع كسر فينا حالة التباعد والتباغض غير الموضوعي بين كثيرين من أهل السودان، ومما أنعم الله به علينا في أسرتنا الصغيرة انً والدنا المهندس عز الدين النور عنقرة كان اتحاديا، وكان من اقرب اصدقائه في مدينة ام روابة خاتمة حياته العملية عمنا عبد الرحمن الحاج سليمان زعيم الحزب الاتحادي هناك، وكان يشارك في حملاته الانتخابية بوعود حفر الدوانكي في قري ريفي شرق كردفان، وعمنا سر الختم الحسن خليفة خلفاء الختمية’ وامتدت علاقتنا حتي اليوم مع الأسرتين واذكر علي سبيل المثال حفيد عم عبد الرحمن تلميذي النجيب حامي حمي المستهلك السوداني الدكتور ياسر ميرغني ومن أسرة عم سر الختم صديقي حفيده بروف محمد الأمين حمزة وشقيقه قائد مسيرة صندوق دعم الطلاب الدكتور احمد حمزة.
ورغم أني انصاري العقيدة بالفطرة، وتيجاني الطريق الذي أخذته عن جدي لوالدتي قطب الطريقة التيجانية في ام روابة الشيخ جبارة عمر، الهائم في حب الله كما وصفه استاذنا محمد حيدوب في كتابه التوثيقي المرجعي (ام روابة.. عبقرية الزمان وعبق المكان) ورغم أني إسلامي التوجه إلا ان صلاتي بالاتحاديين اعمق من صلات بعضهم ببعض، واذكر علي سبيل المثال لا الحصر بعض اشهرها والذي يعرفه كل من يعرفنا، وفي مقدمتهم الزعيم الحبيب الشقيق الشريف زين العابدين الهندي، وخليفة الخلفاء الشيخ عمر شيخ إدريس حضرة، والزعيم الحاج التيجاني محمد إبراهيم، وابن عمي الشهيد الزعيم محمد إسماعيل الأزهري ومئات اخرين من كل فصائل الحركة الاتحادية.
وقولي في مولانا السيد محمد عثمان الميرغني لا أقوله من باب هذه الصلات والوشائج المتينة. ولكنها شهادة واجبة كتبتها قبل ذلك، واكتبها اليوم لأنها صارت أوجب.
مولانا السيد محمد عثمان يكاد يكون وحده من الزعماء السياسيين الذي لم يحسب عليه موقف وطني سالب طوال حياته السياسية الممتدة نسأل الله ان يمد له فيها مزيد، فهو دائما يتخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ودائما ما يضحي بالصغائر من اجل عظائم الأمور، فعندما حدثت المصالحة الوطنية بين الجبهة الوطنية المعارضة وبين نظام مايو عام ١٩٧٧م وانقسم حزبه بين رافض لها ومتعايش معها، أجاز مولانا الموقفين ولم يخسر هولاء ولا اولئك، فلما سقطت مايو في أبريل ١٩٨٥م جمع أصحاب الموقفين في حزب واحد الحزب الاتحادي الديمقراطي ، وفي انتخابات عام ١٩٨٦م لما لم بتفق كثيرون من أعضاء حزبه في كثير من الدوائر الانتخابية علي مرشح واحد، قدم مولانا وحدة الحرب علي الفوز ففتح كثير من الدوائر يترشح فيها كل من رغب باسم الحزب، ففقد دوائر انتخابية كثيرة لكنه حافظ علي وحدة حزبه، ولم يفقد عضوا واحداً’ وتلك كانت عبقرية عظيمة ونظرة ثاقبة.
ولما أخذت نشوة السلطة أهل الإنقاذ أول عهدهم في الحكم وقال الرئيس البشير (جبناها بالبندقية والعايزها يشيل البندقية) خرج مولانا من السودان وكون التجمع الوطني المعارض وضم اليه الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق، وقيادة الجيش السابقة بقيادة المرحوم الفريق فتحي احمد علي، وشكل التجمع قوات محاربة، ورد مولانا علي البشير بقوله المشهور (سلم تسلم)
ولما وصلت حدة الخلاف بين الحكومة والمعارضة اشدها، وصارت البلاد مهددة بمخاطر جمة، استجاب مولانا لنداء الحكومة للحوار الوطني، وأطلق نداء القاهرة، وعاد إلى أرض الوطن، ولم يكتف بالمشاركة في الحوار بل شارك في تحمل المسؤولة مع الحاكمين، وصبر علي ذلك، واصطبر، لم يساوم ولم يزايد، وحافظ علي شراكته في الحكومة حتي آخر ثانية في عمرها وحافظ علي وصله وتواصله مع كل المعارضين سعيا للوصول الي موقف وسط يجنب البلاد ويلات الدخول في متاهات المجهول.
ولذلك عندما سقطت الإنقاذ لم يجرؤ احد من الثائرين علي اتهام مولانا وحزبه بانهم ممن اسموهم الفلول. ولم يغضب الإسلاميين انحياز مولانا وحزبه للثوار، فكلهم يعلمون انه يبحث عن مصلحة الوطن والمواطنين ولا ينظر البتة الي مصلحة حزبية او شخصية.
ويحسب لمولانا انه اول من نظر بريبة لمخاطر التدخل الخارجي، وهو أول من فطن ونبه الي ان وحدة الصف الوطني هي الترياق الوحيد الذي يحصن البلاد والعباد من مخاطر التدخلات الخارجية، ومولانا أول هو أول من اعلن وقوفه مع الجيش حامي حمي الوطنً، ومعلومة المواجهات التي قادها في ذلك، ومعلوم تصديه للمليشيا ومعاونيهم، ولم ترده اواصر قربي حميمة عن هذا التصدي، فمولانا عنده الوطن غير قابل للمزايدات ولا المساومات.
ومبادرة مولانا للحل الشامل التي يبشر بها نفر كريم وعظيم من أهل حربه هذه الأيام في العاصمة الإدارية بورتسودان نري فيها الخلاص والحل الناجع لازمة بلدنا’ وهي تدعو لان يكون الحل شاملا لا يستثني احدا، وهي توكّد الوقوف مع الجيش ومسندته ودعمه، وتدعو الي التصدي لكل محاولات الغزو والاستلاب الخارجية بكل اشكالها وألوانها.
ولم يبق الان خيار امام كل أهل السودان الحاكمين والمحكومين إلا الاستجابة لمبادرة مولانا لوحدة الصف الوطني والعبور، وهي مبادرة لا يشوبها غرض، ولا بعيبها مرض.