
تأملات
جمال عنقرة
أم روابة .. عبقرية المكان وعبق الزمان
لم اجد افضل من عنوان كتاب استاذنا الراحل المقيم محمد إبراهيم حيدوب عنوانا لمقال الخواطر والذكريات هذا عن مدينتنا الحبيبة عروس النيم ام روابة حاضرة شرق كردفان، وكتاب أستاذ حيدوب جلي وتجلت فيه عبقرية المدينة وعبقها، وهو ليس الكتاب الوحيد الذي وثق للمدينة، ولا لمدن غيرها داخل السودان او خارجه، ولكنه عندي افضل كتاب قراته وثق لمدينة، وليس لأني تشرفت بطباعته ونشره، ولكن حتي عمليتي الطباعة والنشر هاتين تجلت فيهما عبقرية المدينة وعبقها.
ولقد انفق أستاذ حيدوب سبعة أعوام كاملات لجمع وإعداد مادة الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته سبعمائة صفحة، وبعد ان أكمل إعداده وتجهيزه للطباعة ظل عامين كاملين حبيس الأدراج لم يجد لطباعته سبيلا، فلما استشار تلميذه الوفي اخي ورفيق الطفولة والصبا، والملاعب والميادين اخي أزهري مكي إسماعيل، أشار عليه بشخصي الضعيف، وهو يعلم مقادير المودة بيني وبين استاذي الجليل، فرغم أني لم اكن من تلاميذه المباشرين لكن كانت بيننا صلة عميقة، ومودة حميمة، وكان لا يناديني إلا (السيد الأمير) منذ ان كنت طالبا يافعا، وهو واحد من الذين زرعوا في نفسي الثقة، والرحمة والمغفرة لابن خالتي الحبيب عبد القادر التجاني ادريس الذي كان فقدي له اعظم من فقد الناس جميعا، فاتصل بي أستاذ حيدوب وذهبت اليه مع اخي أزهري، واعطاني نسخة من الكتاب، وقال لي ان أمنيته الوحيدة الباقية ان يشاهد كتابه وقد رأي النور قبل ان يفارق الحياة، فاخذت الكتاب ووعدته ان افعل ذلك باذن الله تعالي.
لم أنم تلك الليلة حتي فجر اليوم التالي، وظللت مرابطا في البيت حتي فرغت من قراءته كله، ثم كتب مقالا استعرضت فيه الكتاب ونشرته في صحيفةً(الوطن) السودانية التي كنت أتولي رئاسة تحريرها بعد رحيل اخي وصديقي وأستاذي المرحوم سيد احمد خليفة، ثم أنشأت (قروب) واتساب حشدت فيه أبناء وبنات ام روابة الذين ورد ذكر أسرهم في الكتاب، وذكرت لهم أني بصدد طباعة الكتاب وان سعر النسخة سيكون خمسة آلاف وناشدتهم حجز نسخ وسداد ثمنها مقدما لنستعين بها في طباعة الكتاب، وبعد ٥٢ يوم فقط من ذاك التاريخ كان الكتاب قد تمت طباعته في مطبعة صديقي الاستاذ جميل مدبولي في مصر، وتم شحنه علي الناقل الوطني (سودانير) والتحية والتقدير للحبيب ياسر تيمو المدير العام لسودانير في ذاك الزمان، رد الله غربته وغربة الطائر الميمون، ووصل الكتاب مطار الخرطوم، وتم استلامه وشرعنا في توزيعه، وتلك كانت واحدة من عبقريات المدينة العروس.
ومن تلك العبقرية استلهمت فكرة حشد أبناء المدينة في كل مكان لاستنهاض هممهم العالية لإعادة بناء المدينة، وبدا المشروع بمعايدة بسيطة ثالث أيام عيد الفطر المبارك في (صالون الأمير) في بورسودان حضرها نحو عشرين من أبناء المدينة يتقدمهم اخي الفريق الركن يس ابراهيم يس وزير الدفاع واخرون، ثم كونا (قروب) واتساب فتحناه علي مصراعيه علي أبناء المدينة المنتشرين داخل السودان وخارجه، فتجاوز عددهم الألف تواثقوا علي تاسيس منظمة تطوعية لتنمية وتعمير المدينة، اوشكت ان تري النور، ونسال الله ان يوفق الذين يريدون ان يتولوا امرها لتكون خير معين لاهلنا وشعبنا وتكون ذراعا آخر مع الأذرع الخيرية التي يقودها أبناء المدينة المرابطون القابضون علي الجمر.
اما وحي هذا المقال فهو تواصل حميم مع واحدة من اخوات الزمن الجميل في مدينتنا التي كانت مثل البيت الواحد، وكان الناس أسرة واحدة لا يفصل بينهم عرق ولا جنس ولا لون ولا ثقافة ولا وظيفة ولا مال، كنا ندخل البيوت من الباب الأقرب سواء كان بؤدي الي الديوان او التكل، كنا ناكل في الحلة، ونشرب من القلة، وننوم في البرش، ونملأ الكرش، لم نكن نعلم لاحد قبيلة ولا جنس، وكانت عري الوصل والتواصل بيننا اقوي منها بين الأهل والاقارب، واذكر ان والدتنا التومة بت جبارة لها الرحمة والمغفرة كانت تنادي بعض الرجال أمثال جدنا ود حماد وجدنا الفضل وجدنا الفكي ابو كنانية، وجدنا اديب وحدنا شيخ الدين الزاكي وجدنا الاسطي محمود كانت تناديهم (أبوي) وكان ابناؤهم ينادون جدنا الشيخ جباره عمر (أبوي جبارة) فكنا نظنهم أشقاء الي ان صرنا رجالا فعلمنا أنهم لا تجمع بينهم قبيلة ولا شئ، وكلهم التقوا وتعارفوا في ام روابة.
وعبقرية ام روابة أنها مدينة مصنوعة، لها صناع وليس لها سكان اصليين تجمعهم قبيلة او شئ من ذلك مثل كثير من المدن والقري، وكما هو معلوم فان اكثر مدن وقري المنطقة غالب سكانها وعمدها من الجوامعة، وبعضها لقبائل اخري مثل البزعة والهبانية والبرتي وغيرهم، ولكن ام روابة مدينة غير، فانشاها الإنجليز للجمع بين العاصمة الإدارية (التيارة) والعاصمة الصناعية والتجارية (شركيلا) فأسرها الكبيرة هجروا من هاتين المدينتين، فالتجار والصناع أمثال حمو والكوباني ومحمد احمد بابكر، واسطي محمد، وحتيلة جاءوا من شركيلا والإداريون والعاملون في الحكومة أمثال العمدة علي جاد الله والبتجاويش ودحماد وفتح الله ندا وجبارة عمر وغيرهم أتوا من التيارة، ثم هجر اليها أبناء واحفاد السلطان علي دينار، وهذه الميزة أذابت كثير من عوامل التفرقة في المجتمعات الريفية السودانية، وذلك كان أسباب عبقريتها المميزة.