مقالات

افتتاح سد النهضة : الأمن المائي والتوازن الإقليمي..

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

اتيح لي الاطلاع المباشر على النسخة الأصلية للاتفاق الرسمي بين السودان وإثيوبيا بشأن تبادل المعلومات المتعلقة بملء وتشغيل سد النهضة. وانطلاقاً من هذه الوثيقة، نستعرض في هذا المقال فرص تعزيز الأمن المائي السوداني، والتوازنات الإقليمية الممكنة، في ظل العلاقات السودانية–المصرية الاستراتيجية، والتقارب السوداني–الإثيوبي المتنامي.

شكل افتتاح سد النهضة الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 محطة محورية في إعادة تشكيل المعادلة المائية والسياسية في حوض النيل. فبعد أكثر من عقد من الجدل والمفاوضات والتصعيد، دخل السد حيز التشغيل الكامل، حاملاً معه مزيجًا معقدًا من الفرص والمخاوف، خاصة بالنسبة للسودان الذي يجاور السد مباشرة، ومصر التي تعتمد على النيل كمصدر شبه وحيد للمياه، وإثيوبيا التي ترى في المشروع رمزًا للسيادة والطموح التنموي.

السودان، بوصفه الدولة الأكثر تأثرًا فنيًا وتشغيليًا من سد النهضة، اتخذ خيارًا استراتيجيًا مختلفًا عن مصر، حين اختار التوقيع على اتفاق ثنائي مع إثيوبيا في أكتوبر 2022 لتنظيم تبادل المعلومات الفنية والتشغيلية المتعلقة بالسد.

الاتفاق، الذي لم يُكشف عنه رسميًا إلا بعد زيارة وزير الري السوداني ورئيس الجهاز الفني لمياه النيل إلى القاهرة مؤخراً ، يتضمن التزامات واضحة من الجانب الإثيوبي بتصريف كميات محددة من المياه (لا تقل عن 300 متر مكعب في الثانية)، والتدرج في عملية الملء خلال موسم الأمطار، مع تقليص التخزين في حالات الجفاف.

لكن الأهم من ذلك أن الاتفاق يُنظم تبادل المعلومات اليومية بين الجانبين، بما يشمل مناسيب المياه والتدفقات والإطلاقات وجودة المياه، ويؤسس لآلية فنية مشتركة للتنسيق واتخاذ القرار بتوافق الآراء. من الناحية الفنية، يشكل هذا الاتفاق إطارًا ضرورياً لضمان سلامة سدود السودان القريبة مثل الروصيرص، كما يسهم في تقليل المخاطر المرتبطة بالفيضانات أو النقص المفاجئ في المياه، ويزيد من فرص السودان في تحسين الزراعة وتوليد الكهرباء وتنمية موارده الداخلية.

أما على المستوى السياسي، فقد أثار هذا الاتفاق تساؤلات حول ما إذا كان السودان قد تنازل عن تضامنه التاريخي مع مصر، أم أنه اتخذ خطوة محسوبة لحماية مصالحه الوطنية المباشرة.

الواقع أن موقع السودان الجغرافي الحساس، وتجاربه السابقة مع الملء الأحادي للسد، فرضت عليه ضرورة التحرك نحو تفاهمات فنية ثنائية. فالتنسيق اليومي مع إثيوبيا ليس تكتيكآ دبلوماسيًا، بل ضرورة تشغيلية هندسية لضمان أمن أكثر من 20 مليون سوداني على ضفاف النيل الأزرق.

في المقابل، ترى مصر في أي تفاهم ثنائي مع إثيوبيا دون اتفاق شامل تهديدًا لترتيبات تقاسم المياه التاريخية، وتأكيدًا على نهج إثيوبيا الأحادي. ولذلك، رفعت مؤخرًا خطابًا رسميًا إلى مجلس الأمن تؤكد فيه استعدادها لاتخاذ “جميع التدابير اللازمة” للدفاع عن حقوقها المائية. وبين الموقفين، يبقى التحدي الحقيقي هو بناء إطار إقليمي مشترك يُعيد الثقة المفقودة، ويضع قواعد تعاون مشترك لا تستثني أي طرف.

إن تجربة السودان مع الملء الرابع لسد النهضة خلال عام 2023، والتي تزامنت مع جفاف نسبي رغم وفرة الأمطار في بعض الولايات، تمت ادارته بصورة جيدة بالرغم من هشاشة الوضع المائي حيث ساعد تبادل المعلومات والتنسيق الفني في التحكم.

وتشير البيانات الهيدرولوجية بحسب منشورات وزارة الموارد المائية والري في السودان في وقت سابق إلى أن مستوى تدفقات النيل الأزرق خلال موسم الفيضانات في العام نفسه كان الأدنى منذ عقود، حتى بالمقارنة مع سنة 1948 التي تعد مرجعًا تاريخيًا للجفاف. وقد تسببت هذه الأزمة في خروج محطات مياه نيلية عن الخدمة، وانكماش رقعة الزراعة، وانخفاض إنتاج الكهرباء.

في هذا السياق، يصبح الاتفاق مع إثيوبيا، وإن لم يكن شاملاً، أداة دفاعية ومصلحية أولى لحماية الأمن المائي السوداني. لكنه أيضًا اختبار لقدرة السودان على التفاوض وتطوير هذا الإطار ليشمل لاحقًا إدارة مشتركة للسد، وضمان التنسيق الكامل خلال حالات الطوارئ، مثل توقف التوليد أو تغير جودة المياه أو الفيضانات المفاجئة أو الجفاف الممتد.

ومن جهة أخرى، فإن تصريحات أديس أبابا المتكررة بأن سد النهضة “مشروع إقليمي” يمكن أن تفتح الباب لتفاهم أوسع مع مصر، خصوصًا إذا تم البناء على الأسس الفنية والبيئية الواردة في الاتفاق السوداني–الإثيوبي، والتي تشمل التزامات دقيقة بتحديث تدابير السلامة، وتبادل البيانات اليومية، وإنشاء آلية فنية مشتركة قادرة على حل الخلافات الفنية المحتملة.

في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى سد النهضة فقط كمنشأة هندسية لتوليد الكهرباء، بل باعتباره أداة لإعادة تعريف العلاقات بين دول حوض النيل. ومثلما يفرض الموقع الجغرافي على السودان حساسية استثنائية تجاه السد، تفرض الاعتبارات التاريخية والقانونية على مصر موقفًا أكثر تحفظًا. لكن ما يجمع الدول الثلاث أكثر مما يفرقها، وهو الاعتماد المتبادل على مياه نهر واحد.

إن الخيار الذي يواجه الجميع ليس بين الصدام أو التنازل، بل بين الجمود أو التقدم نحو تعاون حقيقي يُحوّل السد من نقطة خلاف إلى منصة شراكة. والاتفاق الثنائي بين السودان وإثيوبيا، رغم محدوديته، يمكن أن يكون نواة لحل أوسع إذا تم التعاطي معه من منطلق استراتيجي، لا كصفقة تكتيكية.

من منظور #وجه_الحقيقة في عالم تتصاعد فيه التحديات البيئية والجيوسياسية، يُبرز سد النهضة كرمز لتقاطع المصالح والطموحات بين الدول. إن النجاح في إدارة هذا المشروع الهائل لا يكمن فقط في بنائه الهندسي، بل في قدرة الأطراف على بناء جسور الثقة والتفاهم، وتبني روح التعاون التي تتجاوز الحدود والسياسات الضيقة. إن الأمن المائي والتوازن الإقليمي في حوض النيل سيظل مرهونًا بحكمة قياداته وجرأتها في تحويل الأزمات إلى فرص، لتحقق شعوب المنطقة السلام والتنمية التي ظلت تنتظرها.
دمتم بخير وعافية.

الأربعاء 10 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى