مقالات

الدبلوماسية الأمنية.. من باكو الي تجديد الثقة

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي.

مثّلت مشاركة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل تحول استراتيجي في دور جهاز المخابرات في مرحلة الانتقال السياسي والأمني التي تعيشها بلادنا. حيث جاء منتدى باكو للأمن مناسبة أظهر فيها السودان توجهه نحو إعادة تعريف مؤسساته الأمنية ضمن واقع محلي ودولي مليء بالتحديات.

بعيدًا عن الخطاب التقليدي الذي يختزل المخابرات في جمع المعلومات أو العمليات السرية، كشف حضور السودان في باكو عن تبنٍ واضح لما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الأمنية”؛ حيث بات الجهاز جزءًا من السياسة الخارجية، وصاحب حضور مباشر في المحافل الدولية، ليس فقط لمخاطبة المجتمع الدولي، بل للتأثير فيه وإعادة رسم صورة السودان خارجيًا.

جاء خطاب الفريق مفضل كرسالة مزدوجة: أولًا، لتأكيد أن السودان يواجه ميليشيا مسلحة مدعومة خارجيًا تهدد بنيته كدولة، وثانيًا، لتقديم نفسه كفاعل قادر على الإسهام في القضايا الإقليمية الكبرى مثل الإرهاب والاتجار بالبشر وأمن البحر الأحمر. هذا التحول في الخطاب ،يبدو أنه نتيجة لإعادة هيكلة داخلية طالت هذه المؤسسة مؤخراً ، مكنتها من تطوير أدواتها، وتعزيز قدرتها على الفعل الميداني و الوظيفي معًا.

هيئة العمليات التي أعيد تفعيلها ، تحولت خلال الحرب إلى ذراع ميدانية محترفة، قدمت إسنادًا أمنيًا ولوجستيًا فاعلًا دون أن تُسجل عليها خروقات تُضعف أدائها. بهذا تجاوز الجهاز الصورة النمطية للمخابرات، ليظهر كمؤسسة وطنية تجمع بين الكفاءة والانضباط، وتسهم في صيانة الدولة و تأمينها.

قرار الرئيس البرهان بالأمس بتجديد الثقة في الفريق مفضل جاء تتويجًا لهذا الأداء، وتثبيتًا لدور المخابرات كأداة وطنية في وقت تتعقد فيه الملفات وتضيق الخيارات. ومن خلال هذا القرار، وجهت الدولة رسائل حاسمة للداخل والخارج : مفادها أن الكفاءة هي معيار الثقة، وأن السودان يتحرك عبر مؤسسات، تدرك كيف توازن ما بين الواجب والحسم والتنسيق.

الأهم أن جهاز المخابرات بات اليوم في موقع يتيح له المساهمة في “هندسة الاستراتيجيات”، وليس فقط في تنفيذها. فالموقع الجيوسياسي للسودان، الممتد من البحر الأحمر إلى القرن الإفريقي، يعزز من أهمية الجهاز كشريك في ملفات أمنية إقليمية ودولية. دول كبرى، من بينها الولايات المتحدة، بادرت بالفعل لإعادة فتح قنوات التنسيق الأمني مع الخرطوم ، في مؤشر على مستوى الثقة والاعتراف المتزايد به كمؤسسة فاعلة.

لكن هذا الدور الجديد يتطلب حذرًا بالغًا. ففعالية الجهاز في المستقبل مرهونة بقدرته على التحول من الإنجاز الظرفي إلى الأداء المؤسسي المستدام. وهذا يتطلب دمج العمل الاستخباراتي التقليدي بالتقنيات الحديثة، وتطوير قدراته التحليلية لقراءة التحولات الجيوسياسية المحيطة. كما أن حيادية الجهاز، والتزامه القانون وابتعاده عن الانخراط في الاصطفافات السياسية والقبلية، ستظل من أهم عناصر قوته في هذه المرحلة المفصلية.

إن ظهور جهاز المخابرات السوداني في الفضاء الدولي بهذه الصورة يعكس تحوّل في بنيته وأدواره، كما يشير إلى لحظة مفصلية تعيد الدولة السودانية من خلالها تعريف نفسها كدولة ذات سيادة، تصوغ سرديتها بأدواتها، من خلال هذا الحضور المنضبط والواعي، الذي يقدم السودان فاعل يملك زمام المبادرة، لا كدولة مأزومة. وإذا ما استمر هذا النهج، فإن باكو سوف تكون نقطة تحوّل في مسار يستعيد فيه السودان مكانته من باب الشراكات الذكية المنتجة لا من موقع التسليم و الارتهان.

كما نري من #وجه_الحقيقة فإن جهاز المخابرات السوداني اليوم يعيد تموضعه كفاعل محوري في صياغة مستقبل الدولة السودانية ، متجاوزًا دوره التقليدي نحو صناعة القرار السياسي والدبلوماسي، كما تجلّى في مشاركته اللافتة بمنتدى باكو وتحركاته الخارجية. ففي ظل حرب معقّدة تهدد شرعية الدولة، ظهر الجهاز كمؤسسة منضبطة وفعّالة، حافظت على المهنية، وقدّمت إسنادًا نوعيًا للقوات النظامية دون أن تُسجل ضدها انتهاكات تُضعف مشروعية الحكم .

هذا التحول لا يعكس فقط عافية مؤسسية استعادت توازنها، بل يُمهّد أيضًا لبروز الأمن كأداة وطنية وازنة لبناء الشراكات الدولية، بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة داخلية للمعلومات والضبط والتأمين. وإذا استثمر السودان هذا المسار بذكاء، فقد تكون “الدبلوماسية الأمنية” بوابته للعودة إلى المسرح الإقليمي كدولة مسؤولة، تُوازن بين مقتضيات السيادة ومتطلبات الشراكة الاقليمية والدولية.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 24 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى