الأعمدةتأملات

السفير المصري .. وبص الشنقيطي مرة أخرى

تأملات
جمال عنقرة

لعلي كتبت مقالا قبل اكثر من عام بعنوان يشابه هذا العنوان، وقبل ذكر طرفة بص الشنقيطي للذين لم يسمعوا بها من قبل، لا بد من الإشارة إلى علاقتي بمصر والمصريين، وهي علاقة في أضعف وصف لها أقول انها نشأت عفوا، ويمكن ان أقول غصبا عني، ولكنها في اصلها تخطيط رباني، ولا ادري ماذا كان يمكن ان أكون لو لم اذهب لدراسة الجامعة في مصر قبل نصف قرن من الزمان، وهو امر لم يكن في الحسبان مطلقا، فما حباني الله به من تميز في مادة الرياضيات تفوقت به علي كل الذين زاملوني في مراحلي الدراسية الأولية والوسطي والثانوي، يجعل دخولي كلية الهندسة جامعة الخرطوم اكثر من مضمون، لكنني في اللحظات الأخيرة اخترت مادة الأحياء ولم أتراجع عن اختياري رغم اصرار استاذ الرياضيات المصري عادل لبيب علي ضرورة العودة الى التخصص حتى بعد نهاية الفصل الدراسي الأول، ولم أتراجع ولم تنجح حساباتي، ولم اقبل بكلية التربية التي قبلت بها، وقررت الامتحان العام التالي رياضيات، ولكن فجاة، وفي اللحظات الأخيرة قدمت للبعثات المصرية، وتم قبولي في كلية الزراعة كفر الشيخ التي كانت تتبع وقتها لجامعة طنطا.
كان متاحا في ذاك الزمان التحول إلى كلية الطب جامعة الزقازيق علي عهد المدير الاستاذ الدكتور طلبة عويضة، وكان متاحا اكثر التحول إلى نفس كلية الزراعة جامعة الإسكندرية، ولكن بحمد الله تعالى وفضله، لم اختر هذا ولا ذاك، وقضيت سنواتي كلها في كفر الشيخ، وهذا هو سر عمق علاقتي بمصر والمصريين، وعلاقتهم بي، ففي كفر الشيخ اتيح لنا معرفة مصر والمصريين، وادركت منذ ذاك الوقت الباكر أننا بلد واحد وشعب واحد، واتاح لنا الرئيسان الراحلان المقيمان جعفر نميري وانور السادات، ان نعيش في رحاب تكامل الذي غرس فينا روح الانتماء لبعضنا البعض، وهو ما جعل عندي حلم الوحدة غاية لن أتنازل عنها أبدا، ولقد وفقنا الله في كفر الشيخ ان نعيش مجتمعا طلابيا سودانيا متماسكا، لا يفرق بيننا شئ، وهو ما جسد عندي قيمة التعايش والتراضي والتوافق بين أهل السودان جميعا، ولقد أتاحت لنا تجربتنا في العمل الطلابيّ والإسلامي في مصر أن ننتج نموذجا متفردا، منحنا بعض الخصوصية، ووفقنا الله أن ننقل هذه التجربة إلى السودان بما اتيح لنا من عمل وعطاء في مجالات العمل الطلابيّ والنقابي والاجتماعي.
وأحمد الله أنني منذ أن دخلت مصر أول مرة في سبعينيات القرن الماضي لم انقطع عنها أبدا، ولئن كان ذهابي الأول لها عفوا، فان تواصلي معها ومع أهلها كان عمدا وقصدا، ومع سبق الإصرار والترصد، وحافظت علي هذا الوصل والتواصل، طوال تلك الفترة، وكنت أزيد منه عندما تسوء الأجواء السياسية بين البلدين، وكنت اقبل باي ثمن ادفعه لذلك راضيا مرضيا من اجل بلد وشعب خلقنا لنكون معا، بلدا واحد وشعب واحد، وخلال هذه الفترة نشأت علاقات وثيقة بيني وبين مصريين كثر، لا سيما الذين تربطهم صلات بالسودان، وفي مقدمة هؤلاء الذين يعملون في السلك الدبلوماسي، والقطاع الإعلامي، والأمن والمخابرات،
واعود لطرفة بص الشنقيطي، وصلتها بالسفير المصري، اخي وصديقي العزيز معالي السفير هاني صلاح، فعلي الرغم من ان معرفتي بالسفراء المصريين الذين عملوا في السودان تمتد من السفير احمد عزت عبد اللطيف، وحتى السفير حسام عيسي، وكانت علاقاتي مع اكثرهم مميزة، وتجاوزت حدود العام إلى الخاص، إلا أن صلتي بالسفير هاني تجاوزت الكل، ويبدو ان استثنائية الظروف التي يعمل فيها السفير هاني، فضلا عن استثنائيته شخصيا، قد كان لها دور عظيم في ذلك، وبحكم اولوية الملف المصري عندي علي ملفات كثيرة، وبحكم حضور السفير هاني المميز في كل نشاط او فعالية ترتبط بالعلاقات السودانية المصرية، وبحكم اني كثيرا ما أكون طرفا في تلك الفاعليات، صار الناس يربطون بيني وبين معالي السفير ربطا وثيقا، ويرون ان صلتي بمعاليه تفوق كل الصلات الاخري بما في ذلك الرسمية، ولذلك فإنني استقبل يوميا اكثر من عشر طلبات للتوسط لدي السفير لتأشيرات لدخول مصر، وكل واحد يعتقد انه مجرد ما اتصل علي، سوف اتصل بالسيد السفير، او اذهب اليه لإنجاز التأشيرة حالا، وكل الذين يتصلون بي محل تقدير وإعزاز، وصلاتي بهم اكثر من وثيقة، ويستحقون ان اسعي لخدمتهم حافيا، لكن لا احد منهم يعلم ان هناك عشرات غيره يتواصلون معي لذات الغرض، ولا يعلم ان هناك عشرات مثلي لهم صلات واتصالات بمعالي السفير هاني ويتواصلون معه لذات الغرض، وهناك عشرات المؤسسات الرسمية التي تبعث بخطابات رسمية لمنسوبيها، هذا فضلا عن اصحاب الأولوية القصوي من عموم أهل السودان الذين يفدون يوميا إلى القنصلية المصرية طلبا للتأشيرة، وهذا هو بعض وجه الشبه مع طرفة بص الشنقيطي.
يحكي أن منزلا في شارع الشنقيطي في ام درمان كل ما مر بص الشنقيطي امام المنزل يفتح باب دولاب الملابس في غرفة النوم، فاحضرت الزوجة نجارا لمعالجة هذه المشكلة، ولكن باءت كل محاولات النجار بالفشل، فاقترح علي صاحبة المنزل ان تغلق عليه باب الدولاب وينتظر حضور البص، ففعلت وذهبت إلى المطبخ، فتأخر البص، وكان الجو حارا، فخلع النجار قميصه، ثم خلع البنطلون، ثم خلع الفانلة الداخلية، وفي هذه الأثناء حضر الزوج من العمل، وفتح الدولاب ليغير ملابسه، فوجد النجار علي تلك الحالة، فقال له النجار (طبعا لو قلت ليك منتظر بص الشنقيطي ما بتصدقني)
ولان الناس لن يصدقوا أنني لا أستطيع ان اخدمهم جميعا في مسالة التأشيرة، لكنهم يجب ان يصدقوا ان ما يطلب يوميا من التأشيرات فوق طاقة السفارة باضعاف مضاعفة، وفوق طاقة المواعين الناقلة بين البلدين الشقيقين، وفوق طاقة العاملين في هذا المجال من البلدين، وهذا هو سر الازدحام والتأخير لا اكثر، ولهذا السبب أجد نفسي مضطرا للاعتذار لكثيرين جدا من الأهل والأحباب والزملاء والأصدقاء، وللأسف أن كثيرين لا يقبلون العذر، وبعضهم قاطعوني تماما لأنني فشلت في عمل تأشيرات لهم إلى مصر، للعدد الذي يطلبون، وفي الزمن الذي يحددون.
وقبل الختام
أقول هناك حالات يجب أن تجد لها الشقيقة مصر علاجاً عاجلا، وهي حالات الطلاب الذين يتم قبولهم في الجامعات المصرية، ويكملون إجراءات التسجيل ويسددون الرسوم، ومثل هؤلاء يجب أن يكون إشعار القبول والتسجيل في الجامعة وسداد الرسوم كافيا لمنحهم تأشيرات الدخول، وكلهم جامعاتهم قد بدأت الدراسة، واعلم كثيرين ضاعت عليهم السنة الدراسية الاولي بسبب التأشيرات، فمن حق الجامعات المصرية ألا تقبلهم، ولكنها إذا قبلتهم، وسددوا رسوم الدراسة واكملوا إجراءات التسجيل، فمن حقهم ان ياخذوا التأشيرات فورا.
واذكر علي زماننا في سبعينيات القرن الماضي، فبمجرد ظهور اسمائنا في لوحة إعلانات العلاقات الثقافية، استخرجنا بطاقة وادي النيل، وتوجهنا صوب مصر، ووجدنا أسماءنا قد وصّلت الكليات، وسجلنا بذات رسوم تسجيل الطلاب المصريين خمسة جنيهات مصرية فقط، علما بان زملائنا من الدول العربية الاخري يدفعون رسوم وافدين اربعة الآلاف من الجنيهات الاسترلينية، والذين اختاروا منا السكن في المدن الجامعية، كانوا يدفعون مثل أشقائهم المصريين خمسة جنيهات شهرية للسكن والطعام.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى