
تأملات
جمال عنقرة
يبدو أن تداخل التكوين القبلي عندنا في الأسرة قد أذاب عندي منذ النشاة الصغري اي احساس بالتمايز القبلي الذي يعاني منه كثيرون من أهلنا في السودان، وكما هو معلوم أن أبناء وبنات جدي الأمير النور عنقرة الثلاثة فوق المائة، أمهاتهم من كل قبائل السودان، فلا توجد قبيلة في السودان، قديمة أو قادمة الا تزوج منها الأمير ورزقه الله منها ذرية، ورثنا عنهم هذا الرصيد النادر النفيس، ثم أن نشاتي في ثلاث مدن متسامحة – ام روابة، الأبيض، وأم درمان – عزز عندي الانتماء للناس كل الناس في السودان بلا استثناء.
لست بالطبع في مقام حديث عن الذات، ولكنني بصدد الحديث عن أمر تناولته كثيرا، ويستحق اليوم ان نطرحه بقوة أكثر، وما اقوله في التقديم هو تأصيل للموقف، وللتاكيد بأنه عندي ليس طارئا، والذين يعرفون بعض ملامح سيرتي ومسيرتي السياسية يعلمون اني ظللت علي الدوام داعيا للتوافق والتسامح، فلم يسبقن احد من شباب الحركة الإسلامية في قبول المصالحة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي والمشاركة في أجهزة مايو السياسية سوي اخي وصديقي الشريف عبد الله إبراهيم فكي، الذي كان قد سبقني في الدخول والتدرج في اتحاد شباب السودان، ولم يسبقن احد من الاسلاميين في العمل في صحافة مايو – الايام والصحافة – سوي الأستاذ يس عمر الإمام، وهو يرحمه الله كان تعيينه سياسيا وليس مهنيا.
ولما انفرد الاسلاميون بالحكم بعد حركة الإنقاذ في الثلاثين من يونيو عام ١٩٨٩م كتبت بعد شهرين فقط وقلت انه لا يجوز لحزب واحد أن يحكم السودان بدون تفويض شعبي، ولم يحدث في تاريخ السودان أن نال حزب واحد تفويضا شعبي مكنه من حكم البلاد، ولا أظن يمكن أن يحدث ذلك أبدا في السودان، وكان هذا هو سبب خلافي مع اخواني طوال عمر الإنقاذ، ولم انل طوال الثلاثين عاما منصبا تنفيذيا، ولا حتى صحفي.
ولعل الناس قد تابعوا مشاركاتي في أكثر مبادرات التوافق ولم الشمل الوطني طوال عهد الإنقاذ وبعده، ولقد كان لي نصيب الأسد في مبادرة الحوار الشعبي الشامل التي فجرها الشريف زين العابدين الهندي عام ١٩٩٦م، ومن غرائب هذه المبادرة الطريفة أن جهاز الأمن اعتقلني بايعاز من بعض منسوبي حزب الشريف لأنهم يرون أن منهجي يفسد المبادرة، وكنت ادعو واخطط ليكون الحوار شعبيا شاملا، وكانوا يريدونه حوارا ثنائيا مع المؤتمر الوطني عبر لجنة حكومية أصدر قرار تشكيلها رئيس الجمهورية اسموها لجنة الفكر، وقد كان لهم ما أرادوا وانتهت المبادرة الشاملة إلى مجرد مشاركة محدودة، وانتهت احلامنا والشريف والشعب، ومات الشريف زين العابدين بالحسرة، بعد ان كتب قصيدة الوداع المشهورة “ربي خذني منهم”
ولما طرحت حكومة الإنقاذ مشروع الحوار الوطني في العام ٢٠١٤م ودعت كل القوي السياسية للمشاركة في الحوار نشطت عبر منابري وعلاقاتي وصلاتي واتصالاتي الخاصة، فجددت التواصل مع كل المعارضين من السياسيين ومن حركات الكفاح المسلح، وكانت حركتي واتصالاتي برعاية ومباركة وتنسيق كامل من رئاسة الجمهورية، وبمتابعة مباشرة من وزير رئاسة الجمهورية الأخ الدكتور فضل عبد الله فضل، وفي ذات العام ٢٠٢٤م قمت بانتاج وإعداد وتقديم برنامج تلفزيوني في قناة الخرطوم الفضائية “أوراق” استضفت فيه أكثر الفاعلين في الساحة السياسية من المعارضين للحكومة، والموالين لها علي حد سواء، وكان المعارضون أكثر من المؤيدين، وكان ضيف الحلقة الأولي الإمام الراحل السيد الصادق المهدي، وسجلتها معه في مقر إقامته في القاهرة، ومن المعارضين الذين استضفتهم السيد إبراهيم الشيخ، والشيخ حسن أبو سبيب، والزعيم عبد الرسول النور، والسيد مبارك الفاضل، والبروفيسور حيدر الصافي، والشيخ إبراهيم السنوسي، والمهندس ابو بكر حامد نور، والسفير إدريس سليمان، والدكتور إبراهيم الأمين، وكثيرون غيرهم، وكان الحوار في كل تلك الحلقات حول التوافق والتراضي الوطني من أجل وطن يسعنا جميعا بلا عزل ولا استئثار،
ولما تباعدت الخطي بين المؤيدين للحكومة والمعارضين لها، وتمسكوا بشعارين متنافرين متعارضين، تسقط بس، وتقعد بس، انتظمنا في مجموعة تدعو إلى طريق ثالث بين الشعارين المتعارضين،
ولما سقط نظام الإنقاذ في الحادي عشر من شهر أبريل عام ٢٠١٩م وازداد اهل السودان تباعدا وتنافرا، تحلقنا حول شيخنا الياقوت ندعو معه إلى وحدة الصف الوطني، وظللت علي المستوي الشخصي اناصر كل دعوة تدعو إلى وحدة الصف، ونبذ العنف والتباغض.
ولما صار الانفجار قاب قوسين أو ادني مساء الجمعة الرابع عشر من شهر أبريل العام الماضي ٢٠٢٣م وضعت يدي فوق ايدي القادة الفريق مالك عقار، والدكتور جبريل إبراهيم والقائد مني اركو مناوي والدكتور محمد عيسي عليو وسعينا بين قيادات الجيش والدعم السريع حتى لا تتمدد المواجهة، وكان دحول قوات جديدة من الدعم السريع إلى مطار مروي، قد زاد الوضع توترا،
ولما تحولت المعركة إلى حرب شاملة ضد الوطن والمواطنين جميعا تقودها مليشيا الشتات مدعومة بقوي ودول إقليمية ودولية، لم أجد أمامي وأمام كل الوطنيين الشرفاء خيار سوي الوقوف بكل ما نملك مع قواتنا المسلحة التي تخوض حرب الكرامة دفاعا عن العرض والوطن والنفس والمال، ومعها كل القوات الأخرى وقوات حركات الكفاح المسلح والمستنفرون، والمقاومة الشعبية، وكل اهل السودان.
الآن .. وقد لاحت بشائر النصر المؤزر بإذن الله تعالى، ومسكت القوات المسلحة والمرابطون معها بزمام المبادرة في الميدان، وصار حسم المعركة مسألة وقت ليس إلا، وكان طبيعيا في مثل هذا الظرف، ونتيجة لما صاحب هذه الحرب اللعينة التي شهدت ممارسات فظيعة غريبة علي المجتمع وعلي الدين والأخلاق، ففي مثل هذه الحالة لا بد أن تتولد مرارات، وتنشا ضغائن واحقاد، ولم أجد في مواجهة ذلك، ومن أجل أن نبني وطنا جديدا استفاد من كل تجاربه المريرة يجب أن نستصحب القيم والمعاني والتجارب القريبة والبعيدة، والأقرب في ذلك مقولة السيد عبد الرحمن المهدي “الفش غنينته خرب مدينته” اما المثال الاشمخ والارسخ فهو قول رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم يوم النصر الكبير، يوم فتح مكة “اذهبوا فأنتم طلقاء”
وهكذا نبني وطنا يسعنا جميعا، يسع التقدميين والمحافظين، المسلمين وغير المسلمين، يسع الكيزان والقحاتة، لا عزل فيه لاحد الا لمن عزله الشعب عبر صناديق الاقتراع.