
السودان وواشنطن… من ضغوط التسوية إلى دعوة زيارة وشراكة الدولة
خبر وتحليل
عمار العركي
▪️في وقتٍ تتبدّل فيه موازين المشهد الإقليمي والسوداني ، جاءت دعوة واشنطن الرسمية لوزير الخارجية السفير محي الدين سالم ، لتفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، وتؤكد أن السودان انتقل من مربع الضغوط والتسويات المفروضة إلى مربع الشراكة والاعتراف بسيادة الدولة ومشروعها الوطني.
▪️وبينما تتهيأ واشنطن لاستضافة اجتماع “الرباعية” خلال أكتوبر الجاري، تصاعدت محاولات محور المليشيا – الإمارات للعب في الوقت الضائع، عبر تكثيف الضربات الميدانية وترويج شائعات سياسية تهدف إلى تحسين موقع المليشيا التفاوضي قبل الاجتماع المنتظر.
▪️فقد شهدت الأيام الماضية تصعيداً واسعاً شمل هجمات بطائرات مسيّرة على مطار الخرطوم وخزان سنار، إلى جانب قصف مدفعي مكثف وهجوم خماسي المحاور على مدينة الفاشر، تزامناً مع حملات إعلامية منسقة روّجت عن مفاوضات “مباشرة أو غير مباشرة” بين القوات المسلحة والمليشيا في واشنطن.
▪️غير أن مجلس السيادة حسم الجدل سريعاً ببيان رسمي واضح نفى فيه نفياً قاطعاً وجود أي مفاوضات، مؤكداً أن ما يُتداول “عارٍ تماماً من الصحة”، وأن موقف الدولة ثابت لا يتزحزح عن الحل الوطني الذي يحفظ السيادة والوحدة والاستقرار.
▪️بهذا النفي الحاسم، وجّه مجلس السيادة ضربة سياسية مزدوجة: الأولى لمنصات التضليل الإعلامي التي حاولت فرض وهم “الرباعية الدولية”، والثانية لمحاولات الإمارات تهيئة أجواء تفاوض تخدم المليشيا وتُربك الموقف السوداني قبيل اجتماع الرباعية.
▪️وفي مقابل هذا التصعيد، واجهت الخرطوم المشهد بثبات ميداني وتحرك سياسي ودبلوماسي متزن، أفشل خطة إعادة تلميع المليشيا أو فرضها كأمر واقع. فقد تمكن الجيش من إجهاض أي مكاسب ميدانية، بينما واصلت الحكومة تفكيك السردية الإماراتية إعلامياً ودبلوماسياً عبر بيانات قوية ومواقف متزنة.
▪️وفي هذا الإطار، جاءت الزيارة الرسمية لوزير الخارجية والتعاون الدولي السفير محيي الدين أحمد سالم إلى واشنطن لتضيف بعدًا جديدًا من الثقة والوضوح في الخطاب الرسمي السوداني الذي وضع عناوينه العريضة الرئيس البرهان خلال زيارته الاخيرة لمطار الخرطوم .
▪️البيان الصادر عن وزارة الخارجية أكد أن الزيارة تأتي في إطار تعزيز العلاقات الثنائية ومواصلة الحوار حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك السلام، والتعاون الاقتصادي والإنساني، وبناء العلاقات على أسس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
▪️هذه الزيارة – في توقيتها ومغزاها – تؤكد أن الخرطوم تتعامل مع واشنطن من موقع الدولة ذات سيادة وقرار ، لا من موقع الباحث عن تسوية، وأن الدبلوماسية السودانية استعادت حضورها في لحظة إقليمية فارقة.
▪️تزامن البيان الرسمي لوزارة الخارجية مع ما كشفته “قناة الحرة الأمريكية” عن محادثات غير مباشرة بين الحكومة السودانية والإدارة الأمريكية في واشنطن، لبحث سبل إنهاء الحرب ورسم “خارطة طريق جديدة” تتبناها واشنطن لتحقيق هذا الهدف.
▪️قالت القناة الامريكية ، أن تشكيلة الوفد السوداني المشارك – تضم وزير الخارجية “محيي الدين سالم”، ورئيس هيئة الاستخبارات العسكرية الفريق “أحمد علي صبير”، وعددًا من القيادات الأمنية والعسكرية – مما يُشير الي أن الملف الأمني أصبح في صدارة أولويات الحوار مع واشنطن، وأن الدولة السودانية تتحرك بوعي سياسي يوازن بين الرسائل العسكرية والأمنبة والدبلوماسية.
▪️ووفق تقرير قناة الحرة الأمريكية، ” تُعد هذه المحادثات أول اختبار حقيقي لقدرة السودان على التكيّف مع النهج الجديد للسياسة الخارجية الأمريكية، الذي يتجه إلى تبني التواصل المباشر بدلاً من المسارات البيروقراطية المعقدة”
▪️وتشير مصادر “الحرة” إلى أن المباحثات تدور حول مقايضات استراتيجية واضحة، أبرزها:
▪️استخدام ملف حصار الفاشر كدليل جنائي لإقناع واشنطن بتصنيف قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية.
▪️عرض مراجعة الاتفاقيات الروسية في بورتسودان مقابل ضغط أمريكي حقيقي على الإمارات لوقف دعمها العسكري واللوجستي للمليشيا.
▪️واقتراح تشكيل حكومة كفاءات أمنية–إغاثية تدير المرحلة الانتقالية تحت حماية الجيش، لتطمئن واشنطن أن الخرطوم قادرة على ضبط الأمن ومنع الفوضى.
▪️هذه التفاصيل تُظهر أن الخرطوم لا تتحدث في واشنطن بلسان الضعف، بل بلغة الدولة التي تمتلك أوراق تفاوض وأدوات تأثير، وأنها تخوض حوارًا مزدوج البعد: دفاعي في المضمون، هجومي في الموقف.
▪️القراءة الواقعية للمصالح الأمريكية تشير إلى أنها تقوم على ثلاثة محاور راسخة لا تتبدّل باختلاف الإدارات: ” التطبيع مع إسرائيل، تحييد روسيا والصين، ومكافحة الإرهابً.
▪️وعلى هذا الأساس بُنيت الفلسفة السياسية الأمريكية في إعادة رسم الخارطة الإفريقية – وخاصة القرن الإفريقي – وفق تصورات تخدم مصالحها، عبر “ثورات ناعمة” وانقلابات مُصمّمة تضمن تغيير الأنظمة دون فوضى أو حروب تمنح روسيا أو الصين ذريعة للتدخل. ▪️وهنا تحديداً وقعت الإمارات في خطئها القاتل؛ إذ خرجت عن النص الأمريكي، ودفعت الأوضاع في السودان إلى حرب مفتوحة أربكت الحسابات الدولية وأضرت بالمصالح الأمريكية ذاتها. غير أن التحولات الأخيرة – خصوصاً نجاح مصر وقطر والسعودية في اتفاق شرم الشيخ لتسوية الوضع في غزة – أعادت ترتيب الأولويات الأمريكية في المنطقة. فقد أثبتت هذه الدول الثلاث كفاءتها وقدرتها على تحقيق تسويات ناجحة، ما جعل واشنطن تميل إلى إسناد أدوار إقليمية أكبر لها في الملفات المعقدة، ومن بينها السودان.
▪️لذلك يُرجَّح أن عرّابي اتفاق غزة (القاهرة – الرياض – الدوحة) لعبوا دوراً تنسيقيًا في تجسير التواصل بين الخرطوم وواشنطن، ووضع اللمسات الأخيرة على خارطة طريق للتسوية الشاملة في السودان، في إطار تفاهمات إقليمية أوسع تشمل أمن البحر الأحمر ومكافحة الإرهاب وربما ملف التطبيع.
▪️تقرأ هذه المؤشرات مجتمعة مع بيان الخارجية المصرية القوي والذي جاء مخالفاً لبيان الرباعية ، والذي يمكن اعتباره إعلان فشل مبكر لاجتماع الرباعية.
▪️اعلان مجلس الوزراء السعودي عن انشاء مجلس التنسيق السوداني السعودي، عطفاً على التحركات المصرية لرفع تعليق مشاركة السودان في الاتحاد الإفريقي، ما يشير إلى أن المعادلة الإقليمية الجديدة تميل لصالح الدولة السودانية.
*خلاصة القول ومنتهاه :*
▪️زيارة وزير الخارجية إلى واشنطن جاءت في لحظة مفصلية، لتُترجم عملياً تحول المشهد من “ضغط على السودان” إلى “تفاهم معه”.
▪️وما بين قراءة المصالح الأمريكية ومهارة الخرطوم في إدارة التوازنات، يتضح أن السودان بدأ يستعيد موقعه كفاعلٍ في معادلة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، ووضح ان الخرطوم باتت تتحدث بصوت واحد في الداخل والخارج، والمعادلة الإقليمية والدولية تتبدل بهدوء لصالح مشروع الدولة السودانية.