
الصحافة السودانية في زمن الخيانة… من يواجهون الموت في الداخل تُسرق أصواتهم في الخارج
كتب : محمدعثمان الرضي
الحرب في السودان لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت آلة طحن شاملة دمرت المؤسسات والبيوت والمدن، لكنها لم تجد فريسة أسهل وأكثر هشاشة من الصحفيين. هؤلاء الذين كانوا في الأمس القريب عيون الوطن وآذانه، صاروا اليوم أهدافاً مكشوفة للرصاص والقصف والاعتقال والابتزاز. وجد الصحفي نفسه في قلب الجحيم من دون حماية قانونية، ومن دون دعم نقابي، ومن دون مظلة سياسية أو مهنية تقيه شرور الحرب. تحولت المهنة إلى مغامرة يومية بين الحياة والموت، بين الجوع والمطاردة، وبين التشريد والتهديد.
ومع كل هذا، لم يتوقف الصحفي السوداني الحقيقي عن الكتابة. لم يتراجع. لم يجبن. ظل يقاوم بأبسط الأدوات وأكثرها خطورة: الكلمة. كلمة تُنشر وقد تكلّفه حياته، أو تجرّه إلى السجون، أو تدفعه إلى الهجرة القسرية. لكن هؤلاء الصحفيين الذين حملوا أرواحهم على أكفهم لم يجدوا من يساندهم. وجدوا من يهرب، من يتاجر، من يقتات على اسمهم، ومن يجمع المكاسب على حساب جراحهم المفتوحة.
أحد أكثر المشاهد سواداً هو مشهد الاتحاد العام للصحفيين السودانيين بقيادته المنتهية، الذي فرّ إلى الخارج تاركاً القاعدة الصحفية تواجه الموت وحدها. غادر قادته البلاد، لكنهم لم يغادروا امتيازاتهم، ولا حساباتهم، ولا خطاباتهم الفارغة التي يتحدثون فيها باسم من تركوهم تحت النار. يتحركون بين العواصم، ويظهرون في وسائل الإعلام، ويتحدثون بثقة عن “قضايا الصحفيين”، بينما الصحفي الحقيقي يبيت في مدرسة مهدمة أو في عنبر عابر أو على رصيف انتظار لا نهاية له. إنها خيانة موثقة بالصمت، موثقة بالغياب، وموثقة بالمتاجرة بعرق ودم هؤلاء المقهورين
ومع هذا الفراغ الذي خلقه الهاربون، ولدت فجأة عشرات الروابط والواجهات التي تتحدث باسم الصحفيين، لكنها لا تعرفهم. لا تزورهم. لا تشاركهم الخبز أو الخوف. ترفع شعارات نقابية بلا قاعدة، وتفاوض بلا تفويض، وتكسب بلا شرعية. كيانات وُلدت من رماد الأزمة لتتحول إلى وسيلة لاستدرار الدعم الخارجي أو تحقيق مكاسب سياسية، وليس لخدمة المهنة التي تتآكل كل يوم.
ورغم هذه المهازل، ظل الصحفيون الوطنيون الذين اختاروا البقاء في الداخل هم عمود الشرف المهني. رفضوا الإغراءات، وواجهوا سفارات حاولت شراء مواقفهم، أو تحويلهم إلى أدوات تجسس تحت غطاء “فرص اللجوء” و“برامج الحماية”. هؤلاء قالوا لا. لا للبيع. لا للخيانة. لا للولاء لغير السودان. هؤلاء يستحقون أن تُرصّع أكتافهم بالنياشين والأنواط، وأن يُخلّدوا في سجل الشرف الوطني، لأنهم اختاروا الموت في الوطن على الحياة كعملاء في الخارج.
الحرب كشفت أيضاً جانباً آخر من الخراب: القوانين البالية التي تنظم الصحافة. قانون الصحافة والمطبوعات أصبح مجرد حبر على ورق في بلد انهارت فيه الدولة نفسها. لم يعد القانون يحمي أحداً، ولم يعد الجهاز النقابي قائماً، ولم تعد المؤسسات الصحفية موجودة إلا كذكريات ممزقة. في ظل هذه الفوضى، تحولت المهنة إلى هدف مفتوح لكل من يريد السيطرة عليها، من قوى سياسية تتسابق لشراء الإعلام، إلى جهات أجنبية تبحث عن موطئ قدم داخل الساحة السودانية المنهكة، إلى واجهات مشبوهة تريد التحكم في “الرواية” لا حماية الصحفي.
وهنا، يصبح السؤال الاستقصائي الأكثر إلحاحاً:
من يستفيد من غياب الجسم النقابي الحقيقي؟
الجواب واضح لمن يملك الشجاعة ليراه: المستفيدون هم من يريدون صحافة بلا صوت، بلا حماية، بلا قدرة على كشف الحقائق. المستفيدون هم من يهمهم أن ينشغل الصحفي بالبحث عن لقمة العيش بدلاً من كشف الفساد والجرائم. المستفيدون هم من يتنعمون بامتيازات “تمثيل الصحافة” وهم لم يقتربوا يوماً من معاناة الصحفيين.
ولو تعمقنا أكثر في قراءة المشهد، لوجدنا أن بعض هذه الواجهات التي تدّعي تمثيل الصحفيين تعمل بتوجيه سياسي، أو بتمويل خارجي، أو وفق أجندة لا علاقة لها بمهنة الصحافة. البعض يبحث عن منصب، البعض عن تمويل، البعض عن دور يضيفه إلى سيرته الذاتية، بينما المهنة نفسها تحترق والعاملون فيها يموتون.
اليوم، الصحافة السودانية تقف وسط معركة وجودية. ليست معركة مهنية فقط، بل معركة سياسية واستراتيجية. فإما أن يستعيد الصحفيون زمام المبادرة، ويبنوا جسماً نقابياً شرعياً قوياً يمثلهم ويقاتل من أجلهم، أو تُترك المهنة فريسة للمتسلقين والمتآمرين والمهربين. إذا لم يتحرك الصحفيون الآن، فإن مستقبل المهنة سيُكتب بعيداً عنهم، وبأيدٍ ليست نظيفة، وبأجندات لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية.
الخطر الأكبر ليس الحرب وحدها، بل صمت المهنة أمام من خانها. وإذا لم تُستعد الصحافة من أيدي الهاربين، فسيُكتب في تاريخ هذه المرحلة أن الذين واجهوا الموت في الداخل… تمت خيانتهم من الخارج.