مقالات

المشهد السوداني بعد عقوبات الكولمبيين

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

..

جاءت تصريحات الرئيس عبد الفتاح البرهان لقناتي العربية والحدث، رسائل واضحة لفرض معادلة سياسية وعسكرية على كل الأطراف الفاعلة. حين أعلن أنه لا هدنة قبل استسلام الدعم السريع، ولا حوار قبل تسليم السلاح، كان يعيد ترسيم حدود القوة، ويضع خطًا أحمر فوق أي مسار تفاوضي يتجاوز الجيش أو يسعى إلى فرض صيغة سياسية لا تنطلق من ميزان السيادة الوطنية.

هذه التصريحات سبقت الحراك الإقليمي والدولي المتسارع، في دلالة على أن الجيش يمسك بزمام المبادرة ،قبل أن تتشكل في العواصم الأخرى. دعونا في هذا المقال نحاول قراءة كل هذه التطورات لفهم المشهد بوضوح.

من التطورات اللافتة أن الكونغرس الأميركي أدرج بندًا خاصًا بالسودان في قانون الدفاع السنوي، يطالب وكالة الاستخبارات المركزية بتطوير خطة خلال 90 يومًا لتعزيز دعم الاستخبارات في مواجهة النفوذ الأجنبي الذي يهدد بإطالة أو توسيع النزاع في السودان، عبر مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، وجمع وتحليل المعلومات التي تمكّن أمريكا من إحباط أي محاولات خارجية لتغذية الصراع، بما يعكس حرص واشنطن على حماية أمنها القومي والاستقرار الإقليمي.

هذا التحرك مثل إعلانًا بأن السودان خرج من هامش الإهتمام إلى قلب حسابات الأمن القومي الأميركي، وأن النزاع فيه لم يعد شأناً داخليًا، بل ملفًا متشابكًا مع الأمن البحري وأمن القرن الإفريقي، وتدافع القوى الكبرى في إفريقيا والبحر الأحمر. ومن يقرأ هذا البند جيدًا يدرك أنه ليس مجرد خطة رصد، بل خطوة أولى نحو إعادة هندسة المشهد السوداني من زاوية أميركية طامحة، تُوازن بين مواجهة النفوذ الروسي، والحد من الدور الإماراتي، وتقليص شبكات الإمداد التي تتغذى عليها مليشيا الدعم السريع.

التحركات الإقليمية لم تتأخر هي الأخرى. فالقاهرة التي ترى السودان امتدادًا طبيعيًا لأمنها القومي، استعادت وتيرة تدخلها السياسي والعسكري من بوابة اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالمشير خليفة حفتر في القاهرة. بدأ اللقاء أكثر من مجرد تنسيق، كان أشبه بإعادة ترتيب مشهد غرب السودان والمثلث، في ظل مخاوف مصرية تطاول أمد الحرب. ومن الواضح أن القاهرة ترفض أمرين: أي محاولة لتقسيم السودان، وأي سيناريو يسمح للدعم السريع بالتحول إلى قوة أمر واقع.

على مستوى الخليج، حملت زيارة أمير قطر إلى الرياض أمس، وإجراء محادثات مع ولي العهد السعودي مؤشرًا على رغبة في إعادة ضبط الإيقاع الدبلوماسي، وخلق أرضية مشتركة تجاه الملفات المتفجرة في الإقليم، وعلى رأسها السودان. فالسعودية التي طرحت مبادرة سياسية خلال الأسابيع الماضية، تدرك أن استمرار الحرب يهدد توازن المنطقة بأسرها، بينما ترى الدوحة أن العودة إلى التنسيق مع الرياض ضرورة لخلق مسار سياسي أكثر تماسكًا، خصوصًا في ظل اتساع التدخلات الخارجية.

وفي الجانب العسكري الدولي، جاءت زيارة قائد القيادة الأميركية في إفريقيا “أفريكوم” إلى ليبيا لتؤكد أن ما يجري في السودان ليس معزولًا عن ديناميكيات شمال إفريقيا. فالتحركات الأميركية في ليبيا ترتبط مباشرة بضبط خطوط التهريب، ورصد تحركات الجماعات المسلحة، وتأمين شريط يمتد من الساحل والصحراء إلى البحر الأحمر. اختيار ليبيا لاستضافة جزء من مناورات أفريكوم المقبلة يكشف عن قراءة جديدة للمنطقة بوصفها مسرحًا محتملاً لنشاط الجماعات الإرهابية، بالنظر إلى الحرب المشتعلة والتي جعلت السودان نقطة ارتكاز أساسية .

وفي خضم هذه الداعيات ، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية “رويترز” فرض عقوبات على أربعة كيانات وأربعة أفراد، معظمهم كولومبيون، يتهمون بتقديم دعم مباشر لمليشيا الدعم السريع. وقد ركز بيان الخزانة على جرائم تجنيد الأطفال، وعلى القتل المنهجي للمدنيين والرجال والفتيان، وعلى الاعتداءات الجنسية، وعلى مشاركة مقاتلين كولومبيين في معارك مثل الفاشر. هذا القرار الأمريكي وفقا للعبارات المستخدمة، يعد مؤشر واضح على أن مليشيا الدعم السريع أصبحت خارج نطاق السيطرة.

هذا التوصيف محاولة واضحة لوضع الدعم السريع في خانة “الجماعات المسلحة ذات الطابع الإرهابي”، بما يمهد لاحقًا لخطوات أكبر، إما عبر عقوبات شاملة، أو عبر إدراج محتمل على قوائم الإرهاب إذا استدعت المعادلة ذلك. وفي لغة السياسة، لا تُذكر جرائم الاغتصاب وتجنيد الأطفال عبثًا ، بل تُستخدم لتعبيد الطريق أمام قرارات أكثر صرامة محتملة تحظى بغطاء قانوني وأخلاقي دولي. وهذه الإجراءات ليست مستبعدة.

لذلك هذه العقوبات تحمل رسالتين واضحتين. الأولى إلى القوى الإقليمية التي ما تزال تقدم دعمًا أو تغض الطرف عن مليشيا الدعم السريع، بأن واشنطن بدأت مرحلة “الضغط الصلب” وأن سياسة الموازنة بين الطرفين لم تعد مقبولة. والثانية إلى الدولة السودانية، مفادها أن الولايات المتحدة بدأت تعيد صياغة توازناتها داخل السودان، وأن الجيش بات أقرب إلى موقع اللاعب الأساسي المقبول دوليًا، مقابل مليشيا ضالعة في الانتهاكات.

بحسب #وجه_الحقيقة السودان يدخل مرحلة جديدة من توازنات القوة، مرحلة تتطلب من قيادته قراءة دقيقة لما يجري من حولها، وتحويل الفرص التي بدأت تلوح إلى مكاسب دولية وإقليمية بل إلى رافعة للمصلحة الوطنية. فمستقبل الدولة السودانية بات يقف على خيط رفيع يمتد بين الحسم العسكري، والتحول السياسي والجهد الدبلوماسي حتي تخرج البلاد منتصرة من هذه الحرب الوجودية التي أنهكت البلاد والشعب والموارد.

دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 10 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى