مقالات

المواطنة فوق الجرائم: قراءة في فلسفة “الحق الثبوتي”

شيء للوطن

م.صلاح غريبة 

Ghariba2013@gmail.com

 

في توقيتٍ بالغ الحساسية من تاريخ الدولة السودانية، وبينما تخوض البلاد معركة وجودية للحفاظ على سيادتها ووحدتها، جاءت تصريحات رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، خلال افتتاح مركز “خالد حسان” للأوراق الثبوتية بمناسبة عيد الشرطة الـ 71، لترسي مبدأً قانونياً وحقوقياً يتجاوز مجرد الإجراء الإداري؛ وهو أن “الهوية السودانية حق لا يسقط بالاتهام”.

التوجيه الرئاسي بعدم حرمان أي سوداني من استخراج أوراقه الثبوتية حتى وإن كانت تلاحقه بلاغات جنائية، يمثل طفرة في الوعي القانوني للدولة. تاريخياً، كانت السلطات في كثير من النظم الشمولية أو الإدارات المتصلبة تستخدم “الوثائق الرسمية” كأداة للضغط أو العقاب المسبق، وهو ما يسمى بـ “الموت المدني”. لكن البرهان اليوم يضع حداً لهذا الخلط؛ فالمتهم يظل مواطناً له حقوق السيادة على هويته، والقانون هو الفيصل في الجريمة عبر ردهات المحاكم، وليس عبر حرمان الشخص من إثبات شخصيته.

هذه الخطوة تعزز من مفهوم دولة المؤسسات التي تفرق بين “المجرم المفترض” وبين “المواطن الأصيل”. فالحرمان من الأوراق الثبوتية يعني عملياً عزل الإنسان عن الحياة؛ فلا تعليم، لا علاج، لا سفر، ولا معاملات مالية، وهو ما يمثل عقوبة قاسية تسبق حكم القضاء، وتتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان العالمية والدستور السوداني.

يمكن قراءة هذا القرار من زوايا متعددة تجعل منه “وثيقة عهد” جديدة بين الدولة والمواطن، فالبعد القانوني لتأكيد أن الأصل في الإنسان “البراءة”، وأن الوثيقة الثبوتية هي الأداة التي تمكن الفرد من المثول أمام القضاء أصلاً. كيف يمكن لشخص أن يدافع عن نفسه أو يُقاضى وهو “نكرة” في سجلات الدولة؟ فك حظر الأوراق عن المطلوبين يسهل فعلياً من عمليات الرصد والمتابعة القانونية بدلاً من دفعهم نحو التخفي والانزواء بعيداً عن أعين القانون.

البعد الإنساني في ظل الحرب، حيث يعيش السودانيون ظروف نزوح وتهجير قاسية بسبب تمرد المليشيا الإرهابية. فقد الآلاف أوراقهم في الخرطوم والجزيرة ودارفور. إن تسهيل الإجراءات وفتح الباب للجميع دون استثناء يلم شتات الهوية السودانية المبعثرة، ويمنح المواطن إحساساً بأن دولته تحتضنه ولا تتصيد عثراته في أحلك الظروف.

احين يشدد القائد العام للقوات المسلحة على “حقوق المواطنة” في عز المعركة، فإنه يرسل رسالة للمجتمع الدولي والمتمردين بأن الدولة السودانية متمسكة بقيم العدالة والمدنية، وأن “معركة الكرامة” ليست مجرد رصاص ومدافع، بل هي معركة لاسترداد كرامة المواطن وحقوقه المسلوبة.

افتتاح هذا المركز المتطور في بورتسودان، وبدعم كريم من دولة قطر الشقيقة، يعكس إصرار مؤسسة الشرطة على التعافي السريع. إن الاحتفال بالعيد الـ 71 للشرطة لم يكن مجرد استعراض عسكري، بل كان “ثورة إدارية” تهدف لتبسيط حياة الناس. الإشادة بالدعم القطري هنا ليست بروتوكولية، بل هي اعتراف بدور الأشقاء في بناء البنية التحتية الرقمية التي تحمي الهوية السودانية من التزوير أو الضياع في ظل الاضطرابات.

ختم البرهان حديثه بالانحناء تقديراً لصمود الشعب السوداني. هذا الربط بين “تسهيل الخدمات” وبين “الاصطفاف خلف القوات المسلحة” ذكي وموفق. فالدولة التي تحترم حقوق مواطنها وتيسر له سبل العيش الكريم (بما في ذلك حقه في الهوية)، هي الدولة التي تجد شعبها درعاً واقياً لها في المحن.

خلاصة القول، إن قرار فك حظر الأوراق الثبوتية عن الجميع هو انتصار لمنطق “الدولة” على منطق “المنظمة”. إنه إعلان بأن السودان يسع الجميع قانوناً، وأن الحساب والعقاب مكانهما منصات القضاء، أما الهوية فهي “مقدس وطني” لا يمس. بهذا القرار، خطا السودان خطوة جبارة نحو تكريس مفهوم المواطنة الحقة، مبرهناً أن الدولة في قمة انشغالها بالحرب، لم تنسَ واجبها الأخلاقي والقانوني تجاه مواطنيها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى