
تلفزيون السودان……. الحلقة الأضعف في معركة الكرامة
كتب: محمد عثمان الرضي
حين تدخل دولة في حرب ممتدة، يصبح الإعلام الرسمي ركناً من أركان الأمن القومي، لا مجرد وسيلة ترفيه أو مساحة بروتوكولية جامدة. فالإعلام في زمن الصراع هو الذي يصوغ الرواية الوطنية، ويقود الوعي العام، ويقدم للناس ما تحتاجه من تفسير وتحليل وسياق. ومع ذلك، فإن الواقع داخل تلفزيون السودان القومي اليوم يشير إلى انهيار مؤسسي واسع، يتجاوز حدود الفشل الإداري ليصل إلى مرحلة تشكل خطراً على الوعي الوطني ذاته. فالمؤسسة التي كان يفترض أن تقف في مقدمة الصفوف باتت تعمل خارج اللحظة التاريخية، وبات حضورها في المشهد أقرب إلى الغياب الكامل.
المقارنة التاريخية تكشف حجم المفارقة. في سنوات مضت، كان برنامج «ساحات الفداء» جزءاً من آلة إعلامية نجحت — رغم كل ما يقال عنها — في خلق تأثير مباشر على قطاع واسع من المواطنين. كان البرنامج يعرف جمهوره، ويخاطب وجدانه، ويقدم خطاباً تعبويّاً متماسكاً حتى وإن كان منحازاً سياسياً. أما تلفزيون السودان اليوم، ورغم أن البلاد تخوض حرباً أعقد وأعمق، فإنه يقف بعيداً عن نبض الناس وخارج إطار الدور الطبيعي للإعلام الرسمي. العجز الحالي لا يمكن تفسيره فقط بضعف إنتاج أو نقص كوادر، بل يرتبط — وفق ما تشير إليه مصادر من داخل المؤسسة بوجود أربع طبقات من التحكم غير الرسمي تتداخل مع بعضها لتمنع أي إصلاح ممكن.
الطبقة الأولى هي نفوذ إداري تقليدي يضم موظفين قدامى يرون في أي محاولة للتطوير تهديداً مباشراً لمواقعهم. الطبقة الثانية تتكوّن من شبكات مصالح داخلية تعمل على إبقاء الوضع كما هو حتى لا تُفتح ملفات الفساد والإقصاء الوظيفي. أما الطبقة الثالثة فهي التدخلات السياسية التي تتخذ شكل توجيهات غير مكتوبة، تحدد سقف الخطاب وتفرض قوائم منع غير معلنة. وتأتي الطبقة الرابعة ممثلة في غياب الإرادة الحكومية لإعادة الهيكلة، خوفاً من تفكيك توازنات قائمة داخل المؤسسة. اجتماع هذه الطبقات يخلق بيئة خانقة وطاردة للكفاءات، تمنع أي صوت جديد وتحاصر كل محاولة إصلاح قبل أن تبدأ.
هذه التركيبة المعقدة تجعل المدير العام للهيئة، الأستاذ إبراهيم البزعي، في موقع بالغ الصعوبة. فالرجل — رغم سمعته الطيبة — لا يملك السيطرة الفعلية على مفاصل القرار. المؤسسة تعمل عبر جزر إدارية منفصلة، كل منها تتحرك وفق مصالحها وعلاقاتها الخاصة، ما يجعل الإدارة المركزية بلا تأثير حقيقي. وفي ظل هذا التفكك، تصبح القوة الفعلية بيد المجموعات الداخلية التي تدير المحتوى وتتحكم في السياسات التحريرية بعيداً عن أي استراتيجية وطنية.
وتبرز إحدى أكثر القضايا خطورة في وجود قائمة سوداء غير معلنة تضم إعلاميين وخبراء ومحللين يُمنعون من الظهور بتوجيهات شفوية. هذه الظاهرة لا تُوثَّق لكنها نافذة، ويتم التعامل معها باعتبارها «قرارات عليا» لا يجوز النقاش حولها. النتيجة أن التلفزيون القومي يُحرم من أصوات كان يمكن أن تقدم رؤية أعمق، وتحليلاً أدق، وسردية وطنية قوية في وقت تحتاج فيه البلاد إلى خطاب إعلامي محترف ومدروس.
ولعلّ أخطر ما نتج عن هذا الانهيار هو أزمة الثقة بين المواطن وتلفزيون بلده. فالسوداني الذي يعيش في قلب الحرب ويبحث عن معلومة موثوقة فقد ثقته تماماً في القناة الرسمية. وبات يتجه للقنوات الفضائية العالمية للحصول على الخبر والتحليل والمتابعة. وهذا التحول ليس مجرد سلوك فردي عابر، بل أصبح ظاهرة جماعية لها دلالات سياسية خطيرة، إذ يعني أن الجهاز الوطني المسؤول عن تشكيل الوعي فقد دوره المركزي، وترك الساحة لوسائل إعلام أجنبية لتحدد للمواطن ما يجري داخل بلده. وهذه حالة تمس الأمن القومي مباشرة، لأن معركة الرواية لا تقل أهمية عن معركة الميدان.
تتضاعف الأزمة حين نعلم أن عشرات من الكفاءات الإعلامية المؤهلة — التي تمتلك خبرات طويلة في العمل التلفزيوني — تم إبعادها أو استبعادها نتيجة صراعات داخلية أو حسابات ضيقة. هؤلاء اليوم يجلسون على الرصيف، بينما تدار المؤسسة بأشخاص يفتقرون للقدرة المهنية والرؤية التحريرية. النتيجة أن التلفزيون يفقد الخبرة، ويفقد المصداقية، ويفقد القدرة على القيام بوظيفته الأساسية.
كل المؤشرات تقود إلى حقيقة واحدة: ما يجري داخل تلفزيون السودان ليس ضعفاً مهنياً ولا قصوراً تنظيمياً، بل أزمة دولة تعاني من تآكل إحدى مؤسسات قوتها الناعمة في لحظة حرجة. فالإعلام الرسمي في زمن الحرب ليس ترفاً، بل خط دفاع استراتيجي. غيابه يخلق فراغاً خطيراً، ويفتح الباب أمام روايات مضادة، ويترك الوعي العام مكشوفاً.
إصلاح التلفزيون القومي لن يكون ممكناً عبر ترقيعات سطحية أو تغييرات شكلية. الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، وإعادة هيكلة حقيقية، وتصفية شبكات النفوذ التي عطلت المؤسسة لسنوات. فالمعركة التي يخوضها السودان اليوم ليست عسكرية فقط، بل معركة وعي وهوية ورواية. وإذا بقي الجهاز القومي على هذا الحال، فإن البلاد تخسر أحد أهم أسلحتها في لحظة تحتاج فيها إلى كل صوت وطني قادر على أن يقول الحقيقة ويرفع الروح المعنوية ويصنع الثقة بين المواطن.