
حين يُختزل الإصلاح في شركة… وتُخفى الشبكات.. تفنيد طرح رشان أوشي حول نظام الإنذار المسبق الجمركي
آخر الليل
عوض الله نواي
بعد 15 أبريل، وفي ظل انهيار الرقابة، وتفكك المعايير، واتساع المساحات الرمادية، وجدت شبكات المصالح بيئة مثالية لإعادة إنتاج نفوذها تحت غطاء الضرورة والاستثناء، فتحولت إلى ثقوب سوداء تبتلع المال العام. وفي هذا السياق، أصبحت هيئة الجمارك السودانية في مواجهة مباشرة مع تآكل الإيرادات، ونمو الفوضى المقنّعة.
في محاولة لكسر هذه الحلقة، اتجهت الدولة إلى تطبيق نظم تقنية هدفها تحصين الإيرادات قبل ملاحقة الفساد بعدها. ومن هذا المنظور، يبرز نظام الإنذار المسبق الجمركي (ACD) بوصفه قرارًا سياسيًا–اقتصاديًا يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمال، وينقل الجمارك من ردّ الفعل إلى الاستباق، عبر تحليل المخاطر قبل وصول الشحنات، وتحويل الموانئ من نقاط اختراق إلى خطوط دفاع اقتصادي.
هذا التحول، بطبيعته، يسحب القرار من التقدير الفردي ويعيده إلى المعيار المؤسسي القائم على البيانات، ويغلق المساحات الرمادية التي ازدهرت فيها شبكات التلاعب بالقيمة وبلد المنشأ والتوصيف. وهو ما يفسّر حجم المقاومة التي واجهها النظام منذ الإعلان عنه.
غير أن ما كتبته الصحفية رشان أوشي انزاح عن هذا الجوهر، واختزل القضية في الشركة المنفذة، مع الاعتماد على رواية طرف واحد، وتجاهل وثائق رسمية وملاحظات مؤسسية جوهرية.
*الوثيقة أولًا… لا الرواية*:
الوثيقة الرسمية الصادرة من وزارة الداخلية – رئاسة قوات الجمارك – مكتب المدير العام، والموجهة إلى الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، تُقر صراحة اعتماد نظام Advance Cargo Declaration (ACD) بالتعاون مع شركتي Sustain & Able و Alpha Group، وتحدد بدء التطبيق الإلزامي اعتبارًا من يناير 2026 على جميع الشحنات المتجهة إلى الموانئ السودانية.
هذه ليست “رواية” ولا “تسريبًا”، بل قرار إداري ممهور بخاتم الدولة، وقّعه مساعد المدير العام للجمارك للالتزام والتحصيل. القفز فوق هذه الوثيقة يطرح سؤالًا مشروعًا حول معايير التحري المهني.
*من هي الشركة؟ حقائق لا انطباعات*’
بحسب السجل التجاري البريطاني، فإن Sustain & Able Group Limited مسجَّلة في 24 أكتوبر 2024 تحت الرقم 16040144، أي أننا أمام شركة وليدة من حيث الكيان القانوني، لم تُكمل عامها الأول بعد.
ولا تظهر في سجلها أي شراكة سيادية أو مؤسسية، ولا ذراع حكومي أو دولي، بل كيان خاص مملوك لأفراد.
*هيكل الملكية… أسماء بلا سجل سوداني*:
وبالرجوع إلى السجل التجاري البريطاني (Companies House)، يتبيّن أن السيطرة القانونية على الشركة تعود إلى ثلاثة أفراد بصفتهم Persons with Significant Control (PSC)، وهم:
Nuradin Yahye Abdulla، وAhmed Mohamoud، وDr. Suleiman Al-Agho، وجميعهم مقيمون بالمملكة المتحدة.
وحتى تاريخ إعداد هذا العمود، لا تُظهر السجلات العامة المتاحة، ولا قواعد البيانات التجارية المفتوحة، ولا أرشيفات النشاط الاقتصادي داخل السودان أي تاريخ مُعلن أو مساهمة موثقة لهؤلاء المُلّاك في التجارة السودانية، أو العمل اللوجستي المرتبط بالموانئ، أو إدارة أنظمة جمركية داخل البلاد، كما لا يظهر ارتباطهم بشركات سودانية سابقة أو شراكات تشغيلية مع مؤسسات الدولة.
هذه ليست اتهامات، بل وقائع توثيقية تُبرز فجوة واضحة بين حساسية المشروع وغياب سجل سابق مُعلن للمُلّاك داخل السودان..
*رأس مال غير معروف… مؤشر لا تفصيل*:
الأخطر في الملف ليس حداثة التأسيس وحدها، بل غياب الإفصاح المالي. فحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا تُظهر السجلات البريطانية العامة أي بيانات منشورة عن رأس مال فعلي، أو حسابات مالية، أو تدفقات نقدية تعكس قدرة تشغيلية تتناسب مع مشروع سيادي بحجم نظام ACD.
نحن أمام كيان قانوني لا يُعرف على وجه الدقة: كم يملك؟ من أين يُموَّل؟ وكيف يدير التزامات بحساسية اقتصادية عالية؟
وهي أسئلة مشروعة لم تجد إجابة في طرح رشان أوشي.
*خبرة تُسوَّق… وسجل لا يساند*:
تُسوَّق الشركة إعلاميًا بوصفها ذات “خبرة تمتد لخمسة عشر عامًا” وتنفيذ في دول متعددة. لكن الخبرة المؤسسية لا تُقاس بالشعارات. قانونيًا، لا يمكن نسب خبرة سابقة إلى شركة لم تكن موجودة وقت حدوثها.
إذا كانت هناك خبرات، فهي – إن صحت – خبرات أفراد أو كيانات أخرى، لا سجلًا متراكمًا للشركة بوصفها الاعتباري. الخلط بين الأمرين تضليل مهني.
*ما قالته الغرفة… وما تجاهلته الصحفية*:
مذكرة الغرفة التجارية لم تُهاجم النظام، بل طالبت بتقييم الجاهزية الفنية والمالية والقدرة التشغيلية للشركة. هذا اعتراض مؤسسي مشروع، جرى تجاهله لصالح دفاع إنشائي عن الشركة.
*الخلاصة:*
المعركة ليست حول اسم شركة، بل حول من يملك مفاتيح الاقتصاد: الدولة أم شبكات المصالح.
وعند منافذ الجمارك تُختبر جدية الإصلاح:
إما أن تنتصر الدولة بمعايير واضحة ونظم استباقية،
أو يُترك الباب مفتوحًا لمزيد من نزيف المال العام.
أما الصحافة، فإما أن تكون أداة مساءلة وتفكيك،
أو تتحول – من حيث لا تشعر – إلى صدى لرواية واحدة.
محبتي واحترامي.