
سد النهضة وأمن السودان المائي
وجه الحقيقة
إبراهيم شقلاوي
يشكل سد النهضة الإثيوبي، منذ الإعلان عن إنشائه، واحدة من أعقد الأزمات الجيوسياسية في حوض النيل، لما يحمله من أبعاد فنية واستراتيجية وأمنية تمس مصالح السودان الحيوية. وبينما كانت التوقعات الأولية تعوّل على السد كوسيلة لتنظيم مياه النيل الأزرق وحماية السودان من تقلبات الفيضانات، كشفت الأحداث الأخيرة – ولا سيما فيضانات عام 2025 – عن حقائق مغايرة، أبرزها ضعف التنسيق ، وتداعيات الإدارة الأحادية للمشروع.
شهد السودان هذا العام فيضانًا متأخرًا ومباغتًا تسبب في خسائر فادحة في الممتلكات، خصوصًا في المناطق الواقعة على مجرى النيل الأزرق. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها فرق التشغيل السودانية في خزان الروصيرص وغيره لتفادي كارثة أكبر، إلا أن واقع الحال كشف استمرار الهشاشة الفنية في إدارة ملف سد النهضة.
لم يكن الفيضان نتيجةً للعوامل الطبيعية وحدها، بل بفعل ما يمكن وصفه بـ”الفيضان المفتعل”، إذ عمدت إثيوبيا إلى استكمال الملء الرابع في 9 سبتمبر 2025 – أي قبل أكثر من شهر من الموعد المعتاد – بالتزامن مع احتفالية افتتاح السد. أعقبت ذلك عمليات تصريف غير منضبطة تجاوزت 730 مليون متر مكعب يوميًا، في وقت كانت فيه السدود السودانية تتعامل مع وفرة مائية ناتجة عن ارتفاع إيراد النيل الأبيض، مما فاقم الموقف وجعل خزان الروصيرص بحسب خبراء في حالة دفاعية لا تسمح بالتخزين الوقائي أو التمرير الآمن للتدفقات.
هذا السيناريو، وتكرار وقائع مشابهة في سنوات سابقة، يكشف تعطّل أحد البنود الرئيسة المنصوص عليها في إعلان المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015، وكذلك الاتفاق الثنائي بين السودان وإثيوبيا في أكتوبر 2022، اللذين نصّا بوضوح على إنشاء آليات مشتركة وفرق فنية لتبادل المعلومات والتشاور المسبق حول التشغيل الموسمي للسد.
غير أن فشل هذه الآلية في الانعقاد والانتظام في الاجتماعات المقررة، قبل عمليات الملء أو التصريف أخرج السودان عمليًا من المعادلة، وجعله متلقّيًا للصدمة لا شريكًا في إدارتها. وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا لم تُفعّل هذه الآلية؟ ولماذا غاب السودان عن الإجتماعات الدورية ؟
الواضح أن القصور في التعامل مع ملف سد النهضة لا يعود فقط إلى ضعف التحليل الفني أو محدودية المعلومات، بل إلى غياب الرؤية الاستراتيجية الوطنية . فقد أدارت إثيوبيا الملف ربما كأداة سياسية بالدرجة الأولى، مستفيدة من المواقف السودانية المرنة وحسن النية الذي طغى على تقدير المخاطر.
لقد أثبتت تجربة عام 2025 بما لا يدع مجالًا للشك أن النيل الأزرق لم يعد نهرًا طبيعيًا يمكن التنبؤ بسلوكه، بل أصبح تحت سيطرة دولة المنبع ، تتصرف بشكل أحادي دون اعتبار لمصالح جيرانها أو للمخاطر البيئية والإنسانية المترتبة على ذلك. بالرغم من أن البيانين الصادرين من الجانب الإثيوبي المتعلق بالفيضانات وبيان وزارة الزراعة والري السودانية جاءا متوافقين.
لكن يبقى السؤال المؤرق: هل يمكن للسودان أن يبني أمنه القومي على افتراض حسن النية فقط؟ الإجابة المؤلمة جاءت على شكل قرى غمرتها المياه، ومزارع دمرتها الفيضانات، ومحطات خرجت عن الخدمة، وهو ما يجب أن يُقرأ كإنذار استراتيجي يجب الاستفادة منه بتوازن المصلحة الاستراتيجية مع الجانب الإثيوبي والسياسية مع الشركاء الآخرين.
التحوّط المستقبلي أصبح ضرورة وجودية، تبدأ بإعادة التموضع السياسي والفني في إدارة الملف، وتمتد إلى صياغة استراتيجية وطنية للمياه تتجاوز الاعتماد على الإخطار الإثيوبي، وتؤسس لمنظومة مستقلة للإنذار المبكر، ونماذج تشغيلية مبنية على السيناريوهات المختلفة للملء والتصريف.
ويرى عدد من الخبراء أن أولى خطوات التحوط تتمثل في تنفيذ أعمال مدنية استراتيجية، تشمل إكمال مفيضي الرهد وكنانة والترعتين، وإنشاء مفيض بديل للطوارئ، إضافة إلى الاستعداد التشغيلي للتعامل مع موارد مائية استثنائية قد تفوق المعدلات الطبيعية. هذه المقترحات تحتاج من وزارة المالية السودانية تمويل دراساتها باسناد الأمر إلى بيوت خبرة.
كما تبرز الحاجة العاجلة إلى فتح مسارات فيضيه نحو سهول البطانة وأبو دليق، التي تُقدّر مساحتها بأكثر من عشرة ملايين فدان صالحة للزراعة، ما يجعل منها مشروعًا استيعابيًا لأي تدفقات مفاجئة محتملة أيضا لذلك يجب أن تشمله الدراسات حتي لا يصبح مجرد خواطر ومقترحات ،كما يجب أن تشرك كافة جهات الاختصاص بجانب الولايات المعنية . ويمكن لهذا المشروع أن يتحول إلى محور تنمية زراعية ورعوية يخدم الأمن الغذائي للسودان ومصر وإثيوبيا، ويسهم في تعزيز الأمن القومي مائيًا وغذائيًا.
هذه الرؤية تتطلب إرادة سياسية قوية وقدرة تنفيذية عالية وخبرة يملكها السودان، إلى جانب تنسيق مؤسسي يراعي الأبعاد الإقليمية. وهنا تبرز أهمية المشاريع المشتركة التي تخدم التكامل الاقتصادي وتؤمن مصادر الغذاء والطاقة في منطقة تواجه تحديات بيئية وجيوسياسية متصاعدة.
بناءً على ذلك، أصبح من الضروري أن تبادر وزارة الزراعة والري السودانية بإجراء دراسات عاجلة وشاملة لكل السيناريوهات المحتملة، في حال التعرض لتدفقات مائية تفوق المعدلات الطبيعية تحت أي ظرف ، تنتهي إلى توصيات عملية قابلة للتنفيذ تُمكّن البلاد من إدارة كل المآلات المحتملة، سواء كانت آنية أو مستقبلية. هذا بالنظر إلى أن السودان أرض للزراعة وليس للتخزين.
كما ينبغي إعادة توظيف الأراضي المشاطئة للنيل لأغراضها الزراعية، وتقليل الكثافات السكانية في المناطق المعرّضة للخطر، عبر مشاريع تنموية جاذبة في مناطق جديدة. ومن المهم الاستثمار في مشاريع تنموية كبرى، مثل قناطر السبلوقة والشريك، ومقرات ،لري ملايين الأفدنة وتوليد الكهرباء وتحقيق الأمن الغذائي.
إن السودان اليوم بحاجة إلى رؤية وطنية شاملة وواضحة للتعامل مع التطورات المحتملة في ملف سد النهضة والتقلبات المناخية المتسارعة. هذه الرؤية لا ينبغي أن تبقى حبيسة الأدراج ، بل يجب أن تتحول إلى خطة تنفيذية عاجلة، تبدأ أولاً بالإجابة على سؤالين جوهريين: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ ثم الانتقال إلى التحوط العملي لمنع تكراره تحت أي ظروف.
إن المطلوب من الخبراء السودانيين أن يباشروا فورًا تحوطات جادة تستند إلى المعرفة والدراسات الميدانية الدقيقة، بما يضمن تقليل المخاطر إلى أدنى حد ممكن، سواء في مواجهة أي تدفقات استثنائية بفعل التغير المناخي أو سوء التنسيق .
لقد كشفت أزمة فيضان 2025 هشاشة القرار السوداني في التعامل مع ملف سد النهضة. وبينما نجح الفنيون في إدارة الطارئ، فشلت السياسة في تجنّب الكارثة. إن أمن السودان المائي واستقراره الاقتصادي والاجتماعي، بحسب #وجه_الحقيقة ، يرتبطان اليوم بصياغة جديدة للتعامل مع سد النهضة كأداة استراتيجية في سياق إقليمي معقد.
المطلوب اليوم إعادة هيكلة الملف بالكامل، ليدار من لجنة سيادية تضم الجهات الفنية والدبلوماسية والأمنية، باعتباره ملفًا وطنيًا من الدرجة الأولى. ويبقى السؤال: إلى متى يظل السودان في موقع المتلقي، ينتظر ما ستقرره إثيوبيا بشأن النيل؟ وهل ستُبنى الاستراتيجيات القادمة على سذاجة التعاون أم على براغماتية المصالح؟
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 6 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com