مقالات

عندما تنطق المخابرات… تختفي الضوضاء وتظهر الحقيقة العارية

 

كتب: محمد عثمان الرضي

بطبيعة تكوينها المهني، تبني أجهزة المخابرات جداراً فولاذياً من السرية حول خزائن معلوماتها، تلك التي لا تُفتح إلا عندما تصبح الحقيقة ضرورة وطنية لا يمكن حجبها عن الرأي العام. فالمعلومة بالنسبة لها ليست خبراً يُلقى في الهواء، بل سلاح استراتيجي يغير مسار الأحداث.

في هذا السياق، جاء حديث مدير جهاز المخابرات العامة السوداني، الفريق أول أمن أحمد إبراهيم مفضل، ليضع البلاد أمام لحظة مكاشفة مصيرية بعد أن كشف عن وجود بقايا المليشيا والمتعاونين داخل العاصمة الخرطوم عقب تحريرها. حديثٌ لم يكن عادياً، ولم يمر مرور التصريحات الروتينية، بل كان بمثابة ناقوس خطر يدق بقوة.

فالجنرال مفضل ليس اسماً عابراً في دفتر الدولة، ولا قائداً يمكن تجاوز حديثه أو التقليل من وزنه. هو الصندوق الأسود للأمن القومي السوداني، رجل يملك مفاتيح التفاصيل التي لا يعرفها سوى قلة قليلة. وكل كلمة ينطق بها تحمل خلفها جبالاً من المعلومات غير المعلنة.

خطورة تصريحاته تكمن في أنها تؤكد وجود خلايا نائمة تتحرك ببطء ولكن بثبات، تنتظر لحظة الانقضاض، وتعمل بأسلوب متخفٍ يصعب رصده دون أجهزة رصد عالية الحساسية والاحتراف. وهذه الخلايا لا تتحرك بمبادرة فردية، بل ضمن شبكات منظمة تتلقى توجيهات دقيقة من خارج البلاد وداخلها.

هذا الواقع يفرض على المجتمع زيادة جرعات اليقظة، وعلى الدولة مضاعفة جهدها الاستخباراتي، لأن الخطر الذي لا يُرى هو أخطر بكثير من العدو الذي يواجهك في العلن. فالحرب الحقيقية تبدأ عندما يظن الناس أنهم خرجوا منها.

حديث مدير المخابرات يفتح المجال لعدد من السيناريوهات المعقدة؛ منها احتمال وجود تسليح مخزن داخل الأحياء السكنية، أو عناصر مدربة تعمل بصفة مدنيين، أو محاولات لإعادة تشكيل خلايا تم تفكيكها سابقاً، أو حتى تجنيد عناصر جديدة داخل العاصمة نفسها.

كما أن تصريحاته تؤشر إلى أن الحرب انتقلت من المرحلة التقليدية إلى مرحلة حرب الظل؛ حيث تختفي الجيوش، وتظهر الشبكات السرية، ويتراجع صوت المدفع ليحل مكانه صوت المعلومة، تلك التي تحدد من ينجو ومن يسقط.

ويمثل كلام الجنرال مفضل رسالة مشفرة للخصوم بأن أجهزة الدولة يقظة وتتابع خطواتهم قبل أن يتحركوا، ورسالة طمأنة للشعب بأن هناك عيوناً ساهرة لا تنام. لكنه في الوقت ذاته رسالة تحذير مفادها أن الخرطوم لم تبلغ بعد مرحلة الأمان الكامل.

ومن الملاحظ أن تصريحات المخابرات جاءت في توقيت حساس يتزامن مع محاولات داخلية وخارجية لإعادة خلط الأوراق سياسياً. وهذا يجعل أهمية التحذير أكبر، لأن أي فراغ سياسي أو أمني يمنح تلك الخلايا مساحة للحركة وإعادة التموضع.

كما تعكس هذه التصريحات وجود معلومات غير معلنة وربما أكثر خطورة، ما يعني أن ما قيل هو الجزء المسموح بنشره فقط، وأن ما لم يُقل ربما يحمل تفاصيل لا يريد الجهاز الكشف عنها حالياً حتى لا يكشف خططه أو شبكات الرصد التي يعمل من خلالها.

وفي هذا السياق، يصبح دور المواطن أكثر حيوية. فالأمن ليس مهمة الأجهزة وحدها، بل مسؤولية مجتمع كامل عليه أن يكون عيناً إضافية للدولة، خصوصاً في ظل وجود عدو يعمل بخبث ويعرف كيف يتخفى داخل المساحات الرمادية.

وعندما تتحدث المخابرات، يلتزم الآخرون الصمت، لأن من يملك المعلومة يملك القدرة على رسم حدود الخطر وحدود الأمان. وهذه الأجهزة لا تتحدث إلا عندما تصبح الكلمة ضرورة وطنية، ولا ترفع صوتها إلا عندما يكون الصمت مكلفاً.

ولهذا، كان حديث الجنرال مفضل بمثابة إعلان مرحلة جديدة من الوعي الأمني، مرحلة تتطلب استعداداً أكبر، وحذراً مضاعفاً، وقراءة دقيقة لكل ما يجري في المشهد السوداني الذي لم تهدأ رياحه بعد.

وفي النهاية، تظل الحقيقة ثابتة: عندما تتحدث المخابرات، يجلس الجميع في مقاعد المستمعين، لأنها صاحبة الساس والرأس والرصّة والمنصّة… وصاحبة القول الفصل حين يتعلق الأمر بوطنٍ لا يحتمل المجاملة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى