
كامل الي نيويورك لكسب المعركة الدبلوماسية..
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
في خطوة لافتة تعكس تحوّلًا محسوبًا في خطاب الدولة السودانية تجاه المجتمع الدولي، قررت الخرطوم الدفع بالدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء، لقيادة وفد السودان إلى الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذا القرار، الذي جاء خلافًا للتوقعات التي كانت تُرجّح مشاركة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ، يُعبّر عن قراءة سياسية دقيقة لمعطيات المرحلة، وتوزيع متقن للأدوار داخل مؤسسات السلطة، يُوظف الأدوات المدنية والدبلوماسية ضمن مشروع استعادة الدولة ومكانتها الإقليمية والدولية.
كامل إدريس، الذي يمتلك سجلًا طويلًا ومشرفًا في منظومة الأمم المتحدة، ليس طارئًا على هذه المنابر. حضوره على رأس وفد السودان يبعث برسالة واضحة: أن السودان لم يعد يكتفي بإدانة الانتهاكات والتمرد من موقع الضحية، بل يذهب إلى المجتمع الدولي متسلحًا بشرعية قانونية ومدنية، ليخوض معركته الدبلوماسية من موقع الفاعل، القادر على تقديم سرديته الوطنية بلغة مؤسساتية ، قائمة على الوقائع .
وإن كان البرهان قد أعلن في نيويورك العام الماضي خارطة طريق واضحة للخروج من الأزمة، تقوم على تشكيل حكومة كفاءات وطنية وتعديل الوثيقة الدستورية وإطلاق حوار سوداني و عملية انتقال تمتد لثلاث سنوات، فإن كامل إدريس يمثل اليوم تنفيذ تلك الخارطة، وتجسيدها العملي، بوصفه رئيسًا للحكومة المدنية التي وُعد بها المجتمع الدولي.
ومن هذا المنطلق، فإن وجوده في الأمم المتحدة هو إعادة تقديم للوجه المدني للدولة السودانية، في لحظة تتطلب إثبات الجدية في تنفيذ الالتزامات.
الخرطوم، باختيارها إرسال إدريس، تراهن على استثمار خبراته القانونية والدولية، لبناء خطاب متوازن ، لكنه حاد في وضوحه. خطاب لم يعد يكتفي بشرح الأزمة، بل يذهب أبعد من ذلك للمطالبة بتوصيف دقيق لطبيعة ما يجري: تمرد مسلح مدعوم إقليميًا، يرتكب فظائع بحق المدنيين، ويستخدم المرتزقة الأجانب في زعزعة استقرار الدولة.
فالتحول في الخطاب الرسمي من صيغة الدفاع إلى صيغة الهجوم هو جزء من استراتيجية جديدة، ترى أن التهاون الدولي في توصيف الأحداث، والتردد في اتخاذ مواقف حاسمة، قد ساهم بشكل مباشر في إطالة أمد الحرب، وفي إضعاف أثر القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 2736 الصادر عن مجلس الأمن، الذي طالب الدعم السريع بوقف حصار الفاشر وانسحاب قواته من المناطق المدنية.
وفي هذا السياق، فإن مشاركة إدريس تحمل أكثر من رسالة. فهي أولًا، تأكيد على أن مشروع التحول المدني في السودان أصبح واقع يتجسد في قيادات مدنية تتحدث باسم الدولة، وتحظى بالاعتراف الأممي والدستوري. ثانيًا، توجيه ذكي للجهود الدولية نحو دعم الحكومة الشرعية، بدلًا من الانجرار خلف مقاربات مائعة تسوّي بين الدولة والمتمردين.
ثالثًا، فرصة لإعادة تعريف موقع السودان في خارطة التوازنات الدولية، كشريك عقلاني يسعى إلى بناء سلام حقيقي مبني على تفكيك أدوات العنف، واستعادة مؤسسات الدولة، وتحقيق العدالة الانتقالية.
الرسالة التي يحملها إدريس إلى نيويورك موجهة للحكومات، و أيضًا إلى الرأي العام العالمي ، والمنظمات ، ومراكز التأثير في صناعة القرار. رسالة مفادها أن السودان لا يطلب الإحسان، بل يُطالب بشراكة عادلة تضع أمنه واستقراره في صلب المعادلات الإقليمية والدولية، وتدرك أن استمرار النزاع لا يهدد فقط وحدة السودان، بل يفتح الباب أمام الفوضى، والتطرف، والجريمة العابرة للحدود، ويفاقم من أزمات الهجرة واللجوء.
ولا يمكن فصل هذا الحراك عن السياق الإقليمي الأوسع. السودان، بحكم موقعه على البحر الأحمر، وامتداده في العمق الإفريقي، لا يتحرك في فراغ. هو يتأثر ويتفاعل مع تقاطعات معقّدة تشمل أمن البحر، وتوازنات الطاقة، وحرب الممرات البحرية . لذلك، فإن مشاركة دبلوماسية من هذا النوع، تُرسل أيضًا إشارات ، بأن الخرطوم مستعدة للعب دور مركزي في التوازنات الإقليمية، لكن على قاعدة الاعتراف بسيادتها، ودعم مسارها المدني، لا مقايضته بمواقف مترددة أو حلول وسط مع المليشيا.
وفي الوقت ذاته، فإن الدكتور إدريس، بخبرته وشبكاته الدولية، يُعد الأنسب لطرح المخاوف الحقيقية التي يحملها السودان: من انفجار أزمة الهجرة غير النظامية، إلى خطر تمدد الجماعات المسلحة في فراغ الدولة، إلى استخدام بعض الدول الإقليمية للأزمة السودانية كأداة تفاوض أو ضغط في ملفات لا علاقة لها بالسودان .
خلاصة المشهد، كما نراه من #وجه_الحقيقة، أن حضور الدكتور كامل إدريس في الأمم المتحدة ، اختبار حقيقي لقدرة السودان على تقديم سرديته للعالم بلغة القانون والسياسة. نجاحه في هذه المهمة قد يشكّل اختراقاً دبلوماسياً يعيد تموضع السودان ويقوّض سردية الميليشيا، بينما الإخفاق قد يفتح الباب أمام الخصوم لملء الفراغ وتشويه صورة الدولة. إنها معركة دبلوماسية حاسمة، قد لا تقل أثراً عن الميدان، لكنها بلا شك ستسهم في تحديد ملامح السودان القادم.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 23 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com