
مع الإمام الصادق المهدي أكثر من حكاية
خواطر صحفية
ضياء الدين بلال
عاتبني بعض الأصدقاء على عدم ذكري، ضمن الخواطر الصحفية، حواراتي مع الإمام الراحل السيد الصادق المهدي، وآخرين مثل الدكتور منصور خالد، والرئيس الأسبق جعفر نميري، والسيد صلاح إدريس، والسيد أبيل ألير، وغيرهم ممن التقيتهم في مسيرة صحفية تجاوزت العشرين عاماً.
الردود التي وصلتني دفعتني للتفكير جدياً في إصدار كتاب بعنوان «حواراتي معهم» أو في إنجاز سلسلة تسجيلات مصورة.
نعم، حاورت الإمام الصادق المهدي كثيراً عبر الهاتف في سنوات أسمرا والقاهرة، ثم عن قرب بعد «تفلحون». أجريت معه لقاءات للصحافة والإذاعة والفضائيات، ورافقته في زيارات عديدة لمدن السودان وقراه. كنت أطرح عليه كل ما يخطر ببالي من أسئلة، أحياناً فظة أو مستفزة، لكن في حدود الاحترام والمودة، وكان يجيب بثقة وهدوء وود، من دون أن يحول التساؤلات الساخنة إلى اتهام للنوايا أو يبني بينها وبين نفسه حواجز صد.
منذ بداياتنا المهنية وجدنا منه النصح والإرشاد والتشجيع. كان يبارك لنا الزواج والمواليد، يشاركنا الأفراح والأحزان، ونشاركه نحن احتفالات أعياد ميلاده وتدشين كتبه الجديدة.
رحل إمام الوسطية والاعتدال في زمن تسيطر عليه لغة التطرف، وتفشي الأحقاد، وتصفية الحسابات.
ما ميز السيد الصادق المهدي بحق هو سعة معرفته ورحابته في التعامل مع الآخر، البعيد قبل القريب. كان بشوشاً وودوداً، مشرق الابتسامة، أخضر القلب، متواضعاً بطبعه.
الميزة الأهم التي صنعت فرادته هي طاقة التسامح التي يفيض بها على من حوله، فيضيء بها عتمات السياسة، حيث لا يعرف لغة القطيعة أو الخصام أو استخدام الأسلحة القذرة في المعارك.
لم يسجل له التاريخ اعتداء على خصومه أو تجريحاً لمنافسيه. لم يوجه كلمة تكسر الخواطر أو تسيء للمشاعر أو تمس الكبرياء. كان يؤمن أن «فش الغبينة يخرب المدينة»، وأن خطاب الكراهية يؤجج الحروب ويدمر المجتمعات.
شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بنزاهة السيرة وطهارة اليد وعفة اللسان. كان يحتمل إساءات الآخرين مهما بلغت من القبح والفحش والتجني، ولا يرد عليها بما تستحق من قصاص أو توبيخ؛ فهو المهذب العفيف.
أبوابه كانت مفتوحة للجميع؛ للصغير قبل الكبير. في قلبه خارطة السودان بكل امتدادها الرحب: قبائل وأعراف، أنهار وسهول، وهضاب.
صفاء ذهنه لم تحجبه غشاوة، بل كان محتشداً بالمعرفة والتجارب. يعبر عن آرائه بصدق ووضوح، مهما كانت المترتبات؛ غضب زيد أم تنمر عمرو.
قاموسه التعبيري متنوع، ممتد من الجبنة السويسرية على موائد أكسفورد، إلى «بيضة أم كيكي» في الجزيرة أبا و«غبيش».
شخصيته خلاصة وعصارة تجارب وخبرات وصراعات وانقسامات وتصالحات، خلال نصف قرن من الزمان، منحته أكسير التسامح وسعة الأفق.
رحل الإمام الصادق.. رمانة السياسة السودانية، ومنبع وعيها، ومصدر حكمتها، وميزان استقامتها الأخلاقية.
رحل آخر سياسي يشد إليه الرحال، ويذهب الجميع إلى بيته طلباً للحكمة والمشورة والنصرة وحسن الرأي.