
نائب رئيس مجلس السيادة… حديث في الهواء الطلق يفتح نوافذ المكاشفة
كتب: محمد عثمان الرضي
عقد نائب رئيس مجلس السيادة الفريق مالك عقار إير لقاءً مفتوحاً مع قادة الرأي العام في حديقة فندق القراند هوتيل بمدينة بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، في مساحة خضراء مكشوفة منحت الحوار روحاً مختلفة قائمة على الودّ والمصارحة والوضوح.
بدا اللقاء استثنائياً بكل المقاييس، فقد اعتبره الحضور واحداً من أنجح اللقاءات التي يعقدها مسؤول رفيع منذ اندلاع الحرب، ليس لطبيعته المفتوحة فحسب، بل لجرعة الصراحة العالية التي طبعت حديث نائب رئيس مجلس السيادة والشفافية التي تعامل بها مع مختلف الأسئلة والهواجس.
وبرزت خبرة الجنرال مالك عقار واضحة في حديثه عن الحرب، فهو أحد الذين خاضوا مساراتها الوعرة وخبروا غاباتها وأحراشها، ما منحه القدرة على تحليل جذور الصراع بلغة لا تعرف التجمل ولا التخفي خلف العبارات الرسمية.
وأشار عقار في واحدة من أكثر إفاداته جرأة إلى أن القيادة السودانية لم تعتد عبر تاريخها الاعتراف بالأخطاء، وأن هذا الإرث ساهم في تكرار دورة العنف حتى وصل عدد الحروب داخل السودان إلى 63 حرباً، مقابل 46 اتفاقية لم تقدم حلولاً جذرية بقدر ما كانت محاولات لتهدئة السطح دون معالجة العمق.
وفي خضم النقاش، برزت بقوة قضية إعادة بناء المؤسسات المهنية، حيث طرح عدد من الصحفيين والمهتمين ضرورة الإسراع في تكوين الجسم النقابي للاتحاد العام للصحفيين السودانيين، باعتباره خطوة أساسية لإعادة تنظيم المشهد الإعلامي وحماية المهنة من العشوائية ومن محاولات التوجيه السياسي.
وأكد المتحدثون أن غياب هذا الكيان ترك فراغاً مؤذياً انعكس على أداء الصحافة، وأضعف قدرتها على نقل الحقيقة في ظرف تتضاعف فيه أهمية المعلومة، وتشتد الحاجة فيه لإعلام مسؤول ومحصن.
وتجاوب عقار مع هذه المطالب مؤكداً تفهمه الكامل لخطورة غياب المؤسسات المهنية، مشيراً إلى أن الدولة لا يمكن أن تستقيم بلا أجسام نقابية قوية تعكس إرادة المهنة وتحمي العاملين فيها، وأن الصحافة تستحق اتحاداً مستقلاً يحافظ على مهنيتها ويبعدها عن الاستقطاب السياسي.
وما يُحسب للجنرال مالك عقار أنه لم يكتفِ بالحديث، بل قدم دعماً عملياً مباشراً للوسط الصحفي، حين لعب دوراً واضحاً في توفير سكن لائق للصحفيين والصحفيات في مدينة بورتسودان خلال فترة الحرب، وهي خطوة اعتبرها كثيرون أعظم ما قدمه مسؤول رفيع للإعلاميين في هذا الظرف بالغ التعقيد.
كما تناول اللقاء أولويات المرحلة الانتقالية، حيث شدد عقار على أن السودان لن يخطو نحو الاستقرار ما لم يتبنَّ مشروعاً وطنياً جامعاً يتجاوز الانقسامات الضيقة، ويعترف بالأخطاء، ويعلي مصلحة الوطن على كل ما عداها، مؤكداً أن الحرب الحالية لم تكن حدثاً معزولاً بل نتيجة تراكمات طويلة من سوء الإدارة وانهيار المؤسسات.
وساد اللقاء انطباع عام بأن ما دار على تلك المساحة الخضراء المفتوحة كان استعادة حقيقية لروح الحوار الوطني، إذ شعر الحضور أنهم أمام مسؤول يتحدث بلا خطوط حمراء، ويواجه الأسئلة بشجاعة، ويعتبر النقد جزءاً من عملية بناء الدولة لا تهديداً لسلطتها.
وغادر المشاركون حديقة الفندق وهم يستشعرون أن هذا اللقاء لم يكن مناسبة بروتوكولية عابرة، بل لحظة سياسية فارقة تحدث فيها مسؤول بدرجة من الصراحة نادرة، وفتح فيها قلبه للحاضرين في مشهد أعاد تعريف العلاقة بين السلطة والرأي العام.
وبقي في ذاكرة الحضور أن هذا الحوار المفتوح مثّل نموذجاً يمكن البناء عليه، فالشفافية التي تجلّت فيه أكدت أن الطريق نحو دولة مستقرة يبدأ من الاعتراف بالحقيقة مهما كانت قاسية، وأن مواجهة الواقع هي أول خطوة نحو التغيير.
ولعل القيمة الأبرز لهذا اللقاء أنه منح السودانيين بارقة أمل في زمن متخم بالخيبات، وأعاد التذكير بأن صوت العقل والشجاعة السياسية لا يزال ممكناً، وأن السودان مهما اشتدّت أزماته قادر على إنجاب قيادات تواجه الواقع ولا تهرب منه.