مقالات

نحن نحب هذا الخور ما استطعنا إليه سبيلا!

لازلتُ أذكر ذاك اليوم في النصف الأول من ثمانينيات القرن الفائت، وأنا خارج من( بريك) من قاعة أنيس بكلية الطب. دخلتُ كافتيريا الصيدلة*، *فهم أناسٌ يُؤلَفون ويُؤلِّفون، وأنا أحمل كوب شاي ونوعًا من التبغ الرديء (أظنّه برنجي). وقفتُ أمام إحدى الجرائد الحائطية فاستوقفني مقالٌ عبارة عن دراسة نقدية لقصيدة مديح الظل العالي* *للشاعر الفلسطيني محمود درويش*.
*كنتُ أحب القصيدة النثرية عند محمود درويش كما أحببتُ الهتافية عند سميح القاسم، والرمزية عند سليمان العيسى ومعين بسيسو. كانت الدراسة معنونة باسم أحد طلاب الطب، فلقد كانت* *المجموعة الثقافية التى نشرت الجريدة الحائطية تضم طلابًا من كليتي الصيدلة والطب*.
*بدأتُ قراءة الدراسة، وشعرتُ أني قرأتُها من قبل؛ فلقد كتبها درويش مع الخروج من بيروت وانتحار خليل الحاوى مع الاجتياح الاسرائيلى لبيروت*:
*قمرٌ على بعلبك ودمٌ على بيروت*
*يا خِلِّي من صبّك قمرًا من الياقوت*
*بليتَ لي قلبك لأموت حين أموت*.
*فجأةً تذكرتُ أني قرأتُها في مجلة فلسطينية اسمها الكرمل وجدتها عند قدّال، حيث كنا نسكن مع صديقنا فرانسوا عزيز إيليا في بيت النمل بأم درمان، وسُمّي بهذا الاسم لكثرة خروج ودخول ساكنيه من قبيلة الأدباء* *والتشكيليين والمغنيين المطاليق والشعراء والغاوون . وصادف أن كان لي موعد مع قدّال لأخذ منه إحدى القصص القصيرة لبشرى الفاضل (وأظنها زيل هاهينا مخزن أحزاني التي جمعها المبدع بشرى الفاضل في كتاب أسماه حكاية البنت التي طارت عصافيرها*).
*وللصدفة كانت مجلة الكرمل الفلسطينية – التي وردت فيها دراسة قصيدة مديح الظل العالي – بحوزة قدّال، وهي من المجلات الثقافية الفلسطينية النادر وجودها في السودان. فأخذتها منه وصوّرت هذه الدراسة، ثم لصقتها بجوار المقال المسروق وعلّقتُ قائلًا*:
> «هذا الكاتب لا بد أن يُقام عليه – ليس فقط حدّ السرقة – ولكن يُقام عليه حدّ الحرابة، ويُقطع فكره من خلاف!»
أثار ردّي وتعليقي ردود فعلٍ، مما جعل أحد أصدقائي – الذين كنت أكنّ لهو احترامًا كبيرًا رغم اختلافاتنا الفكرية في ذلك الزمان – يردّ علىواصفًا إياي بـ”الفتى القادم من الخيران”، وهو يعني خور أبو عنجة.
فأجبته:
«يا صديقي، إنك لا تعلم، فلقد كسوتني ثوب الفخار إذ وصفتني بأحد أبناء الخور. هل جلستَ العصر يومًا – ليس تحت شتلات العنب – ولكن تحت ظلال شجر ودقليل وسمعتَ منصور محمد خير وأصحابه يتجادلون عن الديالكتيك المقلوب عند هيغل؟ وكيف بعد المغرب يخرجون من دسامة الحوار بإبداعات طه طفون وصوتٍ يأتي من الشارع التاني (طلعت القمرة الليل ياعشاى ودونا لى اهلنا)؟
هل رأيتَ الحزم في وجه حمد النيل ضيف الله؟ أم مررتَ قريبًا من الأستاذ عبد الرحمن ضيف الله في (دار الحزب) وهو يتحدث عن نشأة القصة القصيرة عند السيد الفيل ود. محمد عبد الحليم، وعن الترجمة عند عبد الله عشري بعد ما جاء من بيروت؟ وفوز وصالونها الادبى وليه الموردة بتجذب المبدعين (معاوية نور)؟ شفتَ البروف عبد الله الطيب، الكاشف والكابلي ساكنين في الطرف الشرقي من الخور؟هل رأيتَ الجميل خلقًا والوسيم شكلًا حسن السر، وهو يدندن بـ”بخاف”، وهو متكلٌ على إرثٍ كبير (إبراهيم والتوم عبد الجليل)؟ ولا شفتَ عركي وأبو الأمين جالسين جنب (البيان) و”واحشني” للتجاني تُؤلّب المواجع وتفتق الجروح؟
هل مررتَ على شلّة المجانين: أنور، عمر، علي ود التومة، وهم يتحدثون عن المجذوب و”شحاد في الخرطوم” ونازك الملائكة والسيّاب والفيتوري ومجموعة الإسكندرية الذين سبقوهم في الريادة والحداثة؟
سمعتَ “صَه يا كنار” والزاهى فى خضرو والصاغ محمود وجلالات ود مرجان؟
شفت ابراهيم ود المقرن وشعرو السبيبي وانا فى شخصك باحترم اشخاص ،سمعتَ الطرمبة بتاعت دفع الله، وأنت يا الناكر غرامه، ولا سمعتَ العوض أحمد خليفة يدندن بـ”ربيع الدنيا”؟ شفتَ الخور مليان موية ومراكب الليل: إبراهيم حسبن، زيدان، ترباس، خوجلي، خليل، والغنا الما خمج؟
شُفته عمّك محمد دمتري البازار شاقي الخور (الما بتعرفه إنت) شايل الفشفاش للكلاب؟
سمعتَ الأستاذ عبد القادر يتحدث عن المهدية؟ ولا مصطفى صالح عن الإنجليزية؟
ولا فرح حسن وكبسون يتحدثان عن فن الإدارة فى ونسه فى بيت بكه؟
سمعت بحاكم اقليم ساكن جنب الخور (مأمون الفيل). وفقهاء وقرانيين واساتذه محامين ومعلمين وضباط وزراعيين وعلماء بحار واطباء متميزين وفرعية الشباب الحاج فضيل ومصطفى ،ومن بعدهم على ود التومة وابشر ود الشول.
شفتَ بيت ناس علي خير – كان نادي الموردة القديم – وترنة ودرّار الغلبوا الهلال؟
والبلياردو والتنس والمسرح وشيل الحديد؟ ونادى ابو عنجة الرياضى والثقافى وعروضىالسنما المتجولة. شفتَ الأزقة والبيوت البسيطة؟ نحنا صغار شفنا أبو الزهور في بيوت العزاء، والمحجوب في العقودات، وعبد الخالق يصلّي في جامع( بر)، وفي الصباح قاعد في دكان عمر الطيب ومعاهم محمود وعطا كوكو بغنوا بالكبريته.
شُفتَ نهاية الخور: مدرستي إبراهيم سوميت والمؤتمر؟
نحسب هذا الخور من خيران الجنة (أليس هو امتداد للنيل عندما يكون مزنوقًا في الخريف)؟
لذا نحن نحب هذا الخور ما استطعنا إليه سبيلًا».
ياخى الخور ده حكاية وبدع وحكم*.
أبشر حسن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى