مقالات

نحو صحافة مسؤولة: موازنة دقيقة بين الحرية والأمان

شئ للوطن
م.صلاح غريبة – مصر
Ghariba2013@gmail.com

 

في عالمنا اليوم، الذي تتسارع فيه وتيرة تدفق المعلومات، أصبحت حرية التعبير ركيزة أساسية لأي مجتمع ديمقراطي. لكن هذه الحرية ليست مطلقة؛ فهي تتطلب توازناً دقيقاً مع متطلبات الأمن القومي وحماية قيم المجتمع. ومن هنا، يكتسب قرار وزير الثقافة والإعلام والسياحة بتشكيل لجنة لمراجعة قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009 أهمية قصوى، خاصة وأن هذا القرار يأتي استجابةً لتوصيات ورشة عمل نُظمت تحت شعار: “حرية إعلامية بمعايير مهنية”.
إن ما يميز هذه الخطوة هو شموليتها واستيعابها للتطورات التي طرأت على المشهد الإعلامي. فبينما كانت الصحافة في الماضي تقتصر على المطبوعات الورقية، نجد اليوم أن الإعلام الرقمي أصبح هو القوة المحركة للرأي العام، من خلال المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي وصناع المحتوى. ومن هنا، تأتي أهمية توسيع تعريف “الصحفي” ليشمل صانعي المحتوى الرقمي، وهو ما يعكس فهماً عميقاً للواقع الإعلامي الجديد.
ولكن، مع هذا التوسع، تأتي مسؤوليات جديدة. فالفضاء الرقمي، رغم ما يوفره من فرص، أصبح أيضاً بيئة خصبة لانتشار خطاب الكراهية والشائعات والأخبار الكاذبة التي تهدد السلام الاجتماعي وتماسك النسيج الوطني. ومن هنا، تتضح أهمية مهام اللجنة في وضع استراتيجية وطنية شاملة للنشر الإلكتروني، لا تقتصر على المراقبة فقط، بل تركز أيضاً على جودة المحتوى ومكافحة الشائعات عبر تطوير آليات للتحقق من الأخبار.
يُعدّ مقترح إنشاء مجلس مهني مستقل لتنظيم النشاط الصحفي خطوة محورية نحو تحقيق الضبط الذاتي للمهنة. فبدلاً من الاعتماد على تدخلات حكومية قد تُفهم على أنها قمع للحريات، يمنح هذا المجلس المهنيين أنفسهم مسؤولية وضع المعايير المهنية والأخلاقية، وحماية الصحافة من أي تجاوزات. وهذا النهج يعزز من مصداقية الإعلام واستقلاليته.
إن المواءمة بين حرية التعبير وضرورات الأمن القومي ليست مهمة سهلة، بل تتطلب حكمة وتوازناً. فالأمن لا يُقاس بالقوانين وحدها، بل بمدى وعي المجتمع وإدراكه للمخاطر التي يفرضها المحتوى غير المسؤول. وفي هذا السياق، تكتسب مهمة اللجنة في إعداد برامج تدريبية للصحفيين في مجالات الأمن القومي أهمية كبرى، كونها تهدف إلى تعزيز فهمهم للقضايا الوطنية الحساسة، وإكسابهم الأدوات اللازمة للتعامل معها بمسؤولية ومهنية.
باختصار، يُمثل قرار تشكيل هذه اللجنة بادرة أمل نحو بناء بيئة إعلامية صحية في السودان، حيث لا تتعارض حرية التعبير مع الأمن والاستقرار. إنها دعوة للجميع، من إعلاميين ومواطنين، للمشاركة في صياغة مستقبل إعلامي يخدم المصلحة العامة، ويعزز من قيم السلام والوحدة في مرحلة حرجة من تاريخ الوطن. فهل ستنجح هذه اللجنة في ترجمة توصيات الورشة إلى واقع ملموس يحمي الحريات ويعزز المسؤولية؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى