
شئ للوطن
م.صلاح غريبة – مصر
Ghariba2013@gmail.com
يُسدل الستار مؤقتًا على مرحلتين حاسمتين من مشروع العودة الطوعية للسودانيين من جمهورية مصر العربية، المشروع الذي تديره منظومة الصناعات الدفاعية السودانية، مُعلنًا عن إنجاز وطني ضخم: عودة ما يزيد عن 100 ألف مواطن سوداني إلى أرض الوطن. هذا العدد الهائل ليس مجرد رقم في سجلات، بل هو تعبير عميق عن تعلق الجالية السودانية ببلادها، وتأكيد على أن الانتماء والوطنية يظلان أقوى من أي محنة أو تحدٍ.
إن الإعلان الصادر عن لجنة المشروع يضع أمامنا صورة جلية لـملحمة وطنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لقد تم تفويج هذا العدد الكبير عبر حافلات السفر من القاهرة وعبر القطارات من محطة رمسيس، في عملية لوجستية ضخمة ومعقدة تطلبت تخطيطًا دقيقًا وتنسيقًا واسع النطاق. إن عودة عشرات الآلاف من منسوبي مؤسسات الخدمة المدنية، بما في ذلك الطيران المدني والقضاء والإعلام والمعلمين، إلى جانب أسر منسوبي القوات النظامية والمواطنين من شتى بقاع السودان، تُمثل خطوة محورية نحو إعادة تفعيل دولاب العمل في المؤسسات الحيوية داخل السودان.
هذه العودة ليست مجرد إنهاء للإقامة المؤقتة، بل هي ضخ لدماء جديدة من الكفاءات والخبرات اللازمة لإعادة بناء وتسيير عجلة الحياة في البلاد. إنها رسالة مفادها أن السودان، بالرغم من كل الصعاب، يمتلك طاقة بشرية هائلة ومُتأهبة للعمل من أجل استقراره ونهضته.
لا يمكن قراءة هذا الإنجاز بمعزل عن الدور الأخوي الصادق والملموس الذي لعبته جمهورية مصر العربية الشقيقة. إن عبارات الشكر والتقدير التي وجهتها اللجنة لمصر، حكومةً وشعباً، تُجسد حقيقة الدعم غير المحدود الذي قدمته القاهرة لإنجاح هذا المشروع. التسهيلات اللوجستية، والمعينات السخية، والتعاون الوثيق، خصوصًا مع هيئة سكك حديد مصر التي قامت بدور محوري في تنظيم الرحلات، كلها عوامل تؤكد عمق ومتانة العلاقات الأخوية والتاريخية بين الشعبين. إن هذا الموقف المصري ليس بغريب على بلد لطالما تقاسم أفراحه وأحزانه مع شقيقه السوداني، وهو ما يُعزز مكانة مصر كعمق استراتيجي وسند لا غنى عنه للسودان.
مع إعلان اللجنة عن إيقاف عملية التسجيل في الثلاثاء 30/9/2025م والشروع في برمجة رحلات شهر أكتوبر للمسجلين، تتأكد أهمية الاستجابة في الموعد المحدد. إن استمرار المشروع في المرحلة المقبلة، كما أكدت اللجنة، هو دليل على الرؤية الوطنية التي تقف خلفه، والتي تهدف إلى توفير طريق آمن ومُنسق لمن اختاروا العودة.
إن الثقة التي أولاها المواطنون للجنة والتزامهم بالضوابط يُشيران إلى وعي عالٍ بأهمية التنظيم في مثل هذه العمليات الكبرى. هذا التعاون هو أساس نجاح أي مبادرة وطنية تهدف إلى المصلحة العامة.
إن نجاح عملية التفويج لـما يزيد عن 100 ألف مواطن سوداني عبر مشروع العودة الطوعية يعكس بوضوح قوة هائلة في الرغبة والمبادرة للمساهمة في إعادة بناء المؤسسات السودانية والوطن بشكل عام، ولا يمكن النظر إلى عودة هذا العدد الكبير على أنها مجرد استجابة لوجستية، بل هي مؤشر وطني وسياسي عميق لعدة دلالات ومنها الالتزام بإعادة تفعيل دولاب العمل، فيُشير الإعلان بوضوح إلى أن المرحلتين شملتا “منسوبي مؤسسات الخدمة المدنية الذين انتظموا في دولاب العمل” في وزارات ومؤسسات حيوية مثل الطيران المدني، والسلطة القضائية، والمؤسسات الإعلامية، والمعلمين، إضافة إلى أسر منسوبي القوات النظامية، وعودة هذه الفئات المتخصصة تحديداً تُظهر أن الهدف الأكبر ليس مجرد “العودة إلى الديار”، بل استعادة الكفاءات الأساسية اللازمة لتشغيل المرافق العامة وإعادة تفعيل الخدمات الضرورية. إنها رغبة واضحة في سد الفراغ المؤسسي الذي قد تكون الأحداث الأخيرة قد أحدثته.
القرار بالعودة الطوعية في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها السودان هو تعبير عن شجاعة وإيمان بالمستقبل. المواطنون الذين اختاروا العودة، خاصة موظفي الخدمة المدنية، يدركون أنهم سيواجهون تحديات كبيرة، لكن اختيارهم يعني أن واجبهم تجاه مؤسساتهم وبلادهم يتقدم على سهولة العيش في الخارج. هذا يعكس التزامًا وظيفيًا ووطنيًا راسخًا.
يشيد البيان بـالثقة التي أولوها (المواطنون) للجنة، وهذه الثقة ليست موجهة فقط للجنة المنظمة، بل هي ثقة أعمق في إمكانية وجود مشروع وطني منظم يستطيع توفير العودة الآمنة والمُنظمة (التفويج المُنظّم). هذه الاستجابة الضخمة تُعطي المشروع شرعية وقوة دفع إضافية لضمان الاستمرارية.
في الختام، يُعد نجاح المرحلتين الأولى والثانية من مشروع العودة الطوعية معلمًا بارزًا في تاريخ السودان المعاصر. إنه يُمثل شهادة حية على قوة الإرادة الوطنية، وعمق التكافل الأخوي مع الشقيقة مصر، والتعلق الجذري للمواطن السوداني بوطنه. إن هذه العودة الكبيرة هي أكثر من مجرد إخلاء للمنافذ، إنها استثمار في المستقبل، خطوة قوية نحو استعادة الحياة الطبيعية بمؤسساتها وكوادرها. العودة اليوم هي بداية لمرحلة جديدة من البناء والتحدي، تتطلب تكاتف الجهود، واستغلال الطاقات العائدة لتكون قاطرة التنمية والاستقرار في السودان.