مقالات

ياريتو يعرف؟… تقديرو عندك !

من أعلي المنصة

ياسر الفادني

في أغنية مين في الأحبة للشاعر بشير محسن، والملحن والمطرب الكبير شرحبيل أحمد، نطل على لوحة فنية متكاملة، تتشابك فيها الكلمات واللحن والصوت لتصنع حالة وجدانية نادرة، النص الشعري هنا لا يقف عند حدود البوح العاطفي التقليدي، بل يتجاوز إلى صياغة شاعرية عميقة تسائل قيمة الوفاء في زمن الخيانة، وتعيد للقلب مكانته كأصدق شاهد على المحبة. العبارة (مين في الأحبة أخلص وحبّة غيرك يا قلبي) تضع المستمع منذ البداية أمام سؤال الوجود في الحب: من يضحي؟ من يخلص؟ من يهب روحه لصديقه أو حبيبه؟، بهذا المدخل المرهف ينفتح النص على معاني التضحية، الوفاء، والخذلان، ويُغرق السامع في بحر من الصور التي تقطر صدقاً وحسرة

أما من ناحية البناء الجمالي، فقد إعتمد الشاعر على موسيقى داخلية قوية تتجلى في التكرار الموزون (غيرك يا قلبي) و(فاكر المحبة)، مما أضفى على النص نغمة خفية تسند اللحن لاحقاً، كذلك، حملت الصور الشعرية البسيطة في ظاهرها عمقاً كبيراً في باطنها: “شايف حبيبو ما ممكن يسيبو.. مشتاق وخايف الأنظار تصيبو! جملة تحشد الخوف والاشتياق والحذر في آن واحد، فتجعل المستمع يعيش صراع العاشق المسكون بالحنين والرهبة

اللحن الذي صاغه شرحبيل جاء متماهياً مع هذا الإحساس، فقد وزع الجمل الموسيقية بذكاء لتتدرج بين الهدوء الشفيف والتصاعد الدرامي، يعتمد على سلاسة الألحان السودانية الممزوجة بروح الجاز التي عُرف بها شرحبيل، فيخلق توليفة موسيقية تضيف للنص بعداً كونياً، اللحن هنا ليس مجرد خلفية للكلمات، بل هو روحها المتجسدة في نغم، يرفع الحزن من عتمة الانكسار إلى فضاء من الجمال المضيء

أما صوت شرحبيل أحمد، فقد جاء كأداة كاملة الانسجام مع النص واللحن، صوته الدافئ الرخيم، الموشى بشيء من الحنين العذب، يمنح الأغنية حياة إضافية، حين يشدو بعبارة (يصعب يا قلبي تنسى الليالي)، يذيب الحاجز بين المغني والمستمع، وكأن الحزن ذاته ينطق، امتزج صوته مع الإيقاع في انسجام بديع، فتجلت قدرته على تحويل المفردة البسيطة إلى تجربة شعورية غامرة

إني من منصتي… أستمع… لمين في الأحبة ، هي ليست مجرد أغنية عاطفية، بل هي شهادة على عبقرية الكلمة السودانية حين تصاغ بحس مرهف، وعلى قدرة اللحن حين يمزج بين المحلية والانفتاح، وعلى صوت فنان حمل همّ الفن الصادق فجعله وسيلة لتجسيد أصدق مشاعر الإنسان، إنها أغنية تبقى في الذاكرة لأنها ليست حكاية شاعر أو مطرب وحسب، بل لأنها مرآة لكل قلب ذاق الحنين وامتحنه الفقد، فخرج بوفاء يزيده ألماً وجمالاً في آن واحد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى