مقالات

يوم ترجع تصافي…نسامحك يا حبيبنا !

من أعلي المنصة

ياسر الفادني

 

في أغنية (لو داير تسيبنا) تتجلى عبقرية الكلمة واللحن والصوت في لوحة واحدة تشبه النيل عند الغروب، حين يتكلم الماء بلسان العاطفة السودانية الصافية، الشاعر إبراهيم الرشيد كتب النص كأنه حوار داخلي بين الكبرياء والحنين، بين من يتظاهر بالقدرة على النسيان ومن تُكذّبه دقات قلبه، فاختار لغة بسيطة في مفرداتها، لكنها مشحونة بالعاطفة والإيقاع الداخلي، قوله: (لو داير تسيبنا جرب وانت سيبنا) ليست مجرد دعوة للرحيل، بل اختبار للحب نفسه، كأنه يقول: (إن كنت تقدر على البُعد فافعل) وسترى أن الفقد سيعيدك إلينا ،  هذه الجملة وحدها تختصر فلسفة العشق في الوجدان السوداني، الكبرياء الممزوج بالصدق، والكرامة التي لا تنفصل عن الحنين

اللحن الذي صاغه إبراهيم عوض حمل النص إلى فضاء آخر، مزج بين الشجن والتماسك، بين الإيقاع الرزين والدفء العاطفي، لم يكن لحناً بكائياً رغم موضوع الفراق، بل كان لحناً فيه رجفة دفء وشيء من الرجاء، استخدم إبراهيم عوض الجملة اللحنية الصاعدة في مقاطع (جرب وانت سيبنا) ليُبرز التحدي، ثم يعود بها إلى نغمة هادئة حين يقول (نسامحك يا حبيبنا) ليضع المستمع في حالة وجدانية بين الانفعال والسكينة، بين الكبرياء والمغفرة، هذا التدرج اللحنـي هو ما جعل الأغنية لا تُنسى، لأنها تمس صميم التجربة الإنسانية دون افتعال

أما صوت إبراهيم عوض، فقد كان هو الجسر الذي عبرت عليه الكلمة واللحن إلى وجدان الناس، صوته يملك خاصية نادرة: يجمع بين القوة والعذوبة، وبين الرجولة والرقّة، كأنه صوت رجل يهمس وهو يبكي ولا يريد أن يُظهر ضعفه، في هذه الأغنية تحديداً، أدى إبراهيم عوض بنبرة صافية، تشبه صوت من يحدث نفسه في آخر الليل، فتتسلل الجملة إلى القلب دون استئذان، إحساسه الصادق جعل المستمع يصدق أن الحكاية تخصه شخصياً، وأنه هو ذاك العاشق الذي يطلب من حبيبه أن يجرّب الرحيل إن استطاع

في وجدان الشعب السوداني، لو داير تسيبنا ليست مجرد أغنية حب، بل جزء من الذاكرة الجمعية. هي مرآة لطبيعة الإنسان السوداني في حبه: صادق، متسامح، لا يتوسل العاطفة لكنه يفيض بها، لذلك بقيت الأغنية حاضرة في الأعراس كما في لحظات الوداع، تُرددها الأجيال لأنها تختصر معنى الحب الكريم الذي يعرف قدر نفسه، ولا يذل صاحبه مهما اشتد الوجد، حين تغنيها الأمهات أو يعيدها الشباب في المقاهي، فإنهم لا يسمعون فقط إبراهيم عوض، بل يسمعون ماضي السودان الجميل، ذلك الزمن الذي كانت فيه الأغنية السودانية مدرسة في الذوق والمشاعر والصدق الفني

إني من منصتي…. استمع لهذه الاغنية…  التي بقيت رمزاً للحب الذي لا يُهزم، للحنايا التي تحترق ولا تنطفئ، وللفن السوداني الذي قال بلسان البساطة ما عجزت عنه كل القصائد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى