
إتفاقية البنادق… وحصار الخبز حين تُفعَّل الدفاعات وتُغلق بوابات أوسيف
كتب محمد عثمان الرضي
وُقّعت إتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان في يوليو 1976 بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات والرئيس السوداني الراحل جعفر نميري، في لحظة إقليمية حساسة فرضت على البلدين تنسيق الدفاع وتأمين الحدود وتعزيز التعاون العسكري، ضمن مسار تكاملي أوسع بدأ مبكراً وتكرّس لاحقاً عبر ميثاق التكامل عام 1982 ومداولات مجلس الدفاع المشترك في سبعينيات القرن الماضي.
هذه الإتفاقية لم تكن نصاً بروتوكولياً معلقاً على الجدران، بل تعبيراً صريحاً عن إدراك مشترك لوحدة المصير الجغرافي والأمني، وعن قناعة راسخة بأن أي خلل في أحد البلدين سينعكس مباشرة على الآخر، بحكم التاريخ والجوار وتشابك المصالح.
ومع اندلاع الحرب في السودان، عاد الحديث بقوة عن إعادة تفعيل إتفاقية الدفاع المشترك، تماشياً مع التحولات الدراماتيكية التي فرضتها المعارك على الأرض، ومع تصاعد المخاوف الإقليمية من تمدد الفوضى وانفلات الحدود وتحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات.
القاهرة، وهي تراقب المشهد السوداني بعين القلق، لم تُخفِ حساباتها الاستراتيجية، فتمزق السودان ــ وفق هذا المنظور ــ لا يتوقف عند حدوده، بل يجعل من مصر المحطة التالية، ويحوّل الأراضي السودانية إلى منصة محتملة لتهديد الأمن القومي المصري، ما استدعى ــ من وجهة نظرها ــ تحريك الإتفاقية كدرع وقائي.
غير أن المفارقة الصادمة تكمن في التناقض الصارخ بين الخطاب الأمني المتشدد والتصرفات العملية على الأرض، فبينما يُحتفى بأخطر إتفاقية دفاعية بين البلدين، تفاجئ السلطات المصرية الجميع بوضع عراقيل خانقة أمام إنسياب البضائع المتجهة إلى منفذ أوسيف الحدودي.
منفذ أوسيف، الذي يبعد نحو 260 كيلومتراً شمال مدينة بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، يُعد شرياناً حيوياً لإمداد مناطق واسعة بالسلع الأساسية، خاصة في ظل اختناق الطرق الداخلية وتداعيات الحرب التي أنهكت سلاسل الإمداد.
القرار غير المعلن بتعطيل حركة البضائع عبر أوسيف لا يمكن فصله عن الواقع الإنساني المتدهور، إذ تتحول الإجراءات البيروقراطية والتشدد الجمركي إلى سلاح خفي يطعن المدنيين في لقمة عيشهم، تحت لافتات لا تقنع أحداً.
الأكثر إثارة للريبة أن ذات البضائع تنساب بسلاسة عبر معبري أرقين ووادي حلفا، من دون عراقيل تُذكر، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام التساؤلات المشروعة حول معايير الانتقاء، وأسباب التضييق على منفذ دون غيره.
هذا التناقض يطرح سؤالاً أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً: كيف تُبرَّر القيود على الغذاء والدواء والاحتياجات الأساسية، في وقت يُفترض فيه أن إتفاقية الدفاع المشترك تُعزّز روح الشراكة لا أن تُحوَّل إلى أداة ضغط غير معلنة؟
إن الأمن القومي لا يُبنى فقط بالمدافع والتحصينات، بل أيضاً بضمان استقرار المجتمعات وعدم خنقها اقتصادياً، لأن الجوع والفوضى أخطر على الحدود من أي تهديد عسكري مباشر.
تعطيل إنسياب البضائع عبر أوسيف لا يضر السودان وحده، بل يضرب الثقة المتبادلة في مقتل، ويقوّض أي حديث عن تكامل حقيقي، ويجعل الإتفاقيات الكبرى تبدو كأنها شعارات انتقائية تُستدعى عند الحاجة وتُنسى عند أول اختبار إنساني.
إذا كانت القاهرة ترى في استقرار السودان خط الدفاع الأول عن أمنها، فإن المنطق يقتضي تسهيل حياة السودانيين لا تعقيدها، ودعم اقتصادهم لا خنقه عند المعابر، لأن الدول لا تُحمى بإضعاف جيرانها.
ما يحدث في أوسيف ليس تفصيلاً عابراً، بل مؤشر خطير على انفصام بين الخطاب والممارسة، وبين ما يُقال في غرف السياسة وما يُنفذ على الأرض، وهو ما يستدعي مراجعة عاجلة قبل أن تتراكم تداعياته.
إن إستمرار هذا النهج يبعث برسائل سلبية في توقيت بالغ الحساسية، ويغذي الشكوك بدل طمأنتها، ويُحوّل إتفاقية الدفاع المشترك من مظلة أمان إلى غطاء لتصرفات لا تخدم أحداً.
في النهاية، لا معنى لإتفاقيات الدفاع إذا كانت المعابر تُغلق في وجه الخبز، ولا قيمة لتحالفات السلاح إذا كانت شاحنات الغذاء تُحتجز بلا مبرر، فالأمن الحقيقي يبدأ من إنسياب الحياة قبل إنسياب الرصاص.