الأعمدةتأملات

الحوار .. بين مطرق الحالمين وسندان المتوجسين

تأملات 

جمال عنقرة

 

الحوار السوداني المرتقب، والذي لا سبيل غيره، تواجهه مشكلة مركبة، تدخله في متاهات ليس لها علاقة بمنطق، ولا تستند علي أصول ولا ثوابت راسخة.

أس هذه الأزمة ان الذين يدعون إلى الحوار من الذين كانوا يعارضون المجموعة العسكرية الحاكمة، والذين انتجوا النظام الإطاري، ثم والوا المليشيا الغازية المعتدية، ولا يزال بعضهم يتدثر بثيابها، يدعون إلى الحوار من اجل ان يعودوا إلى الحكم الذي كان بين اياديهم وفرطوا فيه بالطمع الذي (ودر ما جمع) لذلك فان خصوم هؤلاء التاريخيين، وكل الذين تأذوا منهم من أهل السودان يرفضون الحوار لانه يمكن ان يعيد الذين سقطوا إلى المشهد السياسي، فيعودون بشباك الحوار بعد ان خرجوا من باب التمرد والخيانة.

صحيح ان اكثر الذين ينادون بالحوار او وقف الحب من موالي المليشيا، ان لم يكن كلهم، يفعلون ذلك بعد ان فقدوا الامل تماما في ان تحقق لهم مليشيا ال دقلو أحلامهم الشاطحة، وصاروا يبحثون عن اي مخرج، وتعينهم بعض الدول علي ذلك، وقد يجدون شيئا من التعاطف من بعض الحاكمين، وبالمقابل فان توجس اكثر المواطنين، وخوفهم من ان يفتح الحوار بابا لعودة الذين افسدوا، تخوف مشروع، ولكن يجب ألا يثنينا كل ذلك عن الحق، فقط علينا الحيطة والحذر، وكما يقول اهلنا المصريون (حرص وما تخونش)

ومثل هذه الحيطة مسؤول عنها الذين بيدهم الأمر من أهل الحكم، وتبدا عند السيد الرئيس البرهان، المسؤول الأول عن عبور السودانيين هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم، ونائبه السيد عقار صاحب الخبرات المتراكمة، والذي عهد علي نفسه العمل من اجل وحدة أهل السودان وتحقيق التوافقي السياسي والتصالح المجتمعي.

ومرتكز ذلك يبدا بالتحديد القاطع ان الحوار ليس سبيلا للعودة إلى الحكم، فلا مكان لأي حزبي معارض كان او موال للحكومة، او حتى مشارك معها في القتال، ليس له سبيل للحكم إلا عبر صناديق الانتخابات، فالحوار هدفه ان يتوافق السودانيون علي رفض العنف، وان يقبل بعضهم بعضا، وألا يتركوا فرصة لغريب ان يدخل بينهم، وان يرتضوا جميعا الاحتكام إلى الشعب، ومن يختاره الشعب يقبل به الجميع.

وكل من يرتضي ذلك مرحبا به، ولدينا في السودان سابقة مشهودة، فبعد ان اجتاحت قوات الجبهة الوطنية العاصمة القومية بالسلاح قادمة من خارج الحدود، واستعانت بدول معادية لحكومة السودان في التسليح والتدريب والتمويل، وبعد معارك شرسة في شوارع الخرطوم وفي دار الهاتف والمطار، راح ضحيتها ضباط وجنود وشباب من مقاتلي الجبهة، ومواطنون، وبعد اقل من عام التقي رئيس الجمهورية المشير جعفر نميري برئيس الجبهة الوطنية السيد الصادق المهدي الذي كان محكوما عليه بالإعدام شنقا حتى الموت، وتحققت المصالحة الوطنية بشرط أساسي هو وضع السلاح وحرية العمل السياسي في الداخل، فعاد حزب الأمة وعاد بعض الاتحاديين، وعاد الإسلاميون كلهم، ولأن قرار الإسلاميين بالمصالحة كان شبه جماعي، رغم أنهم لم يكونوا طرفا في صناعتها، لكنهم كانوا الأكثر استفادة منها، فكل إنجازات الحركة الإسلامية الكبيرة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع تحققت خلال فترة المصالحة والمشاركة في مايو، وجاء الاتحاديون بعدهم لان عبقرية السيد محمد عثمان مكنته من التوافق بين موقفي حزبه المعارض والمشارك، فحصد اعلي الأصوات في أول انتخابات بعد سقوط نظام مايو، وحقق الإسلاميون تقدما ملحوظا في تلك الانتخابات، ولما حاولت الأحزاب الاخري ان تتعشي بهم، تغدوا بها صبيحة يوم الجمعة الثلاثين من يونيو عام ١٩٨٩م ودان لهم حكم شبه مطلق لمدة ثلاثين عاما بعد الإنقاذ.

مثل تلك التجربة، ومن قبلها أصول الدين، وممارسات سيد الخلق اجمعين صلي الله عليه وسلم، تستوجب علينا ان نسعي إلى فتح كل أبواب الحوار، من اجل ان نبني وطنا يسعنا جميعا، ونضع حدا نهائياً لدورة الحكم الخبيثة، وينهض بلدنا ويلحلق بركب الدول التي تقدمت، وتركتنا نتحسر، ونغني، كنا زمان وكنا زمان، ونضع حدا لمآسي شعبنا الذي ذاق الذل والهوان، والتشتت والتبعثر، والتسول علي موائد اللئام.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى