
تأملات
جمال عنقرة
يحكي عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين انه كان يسير وسط بعض وزرائه ومستشاريه، فهمس احدهم في إذن الرئيس وقال له (يوجد تراب في الكندرة سعادتك) والكندرة هي الحذاء، فقال له الرئيس صدام يرحمه الله (خلي نظرك فوق يا ….)
تذكرت هذه المقولة عندما بعث لي احد القراء تعليقا علي مقالي الأخير عن مصر بعنوان (مصر .. الزول الصديق بي اسمه ما هو صديقك) ولفت نظري الي ما يعتبره تعسفا مصريا ضد السودانيين، وضرب لذلك أمثلة بتأشيرات الدخول واجراءات الإقامة والرسوم الدراسية الجامعية، والموقف من المدارس السودانية في مصر، فكتبت له ابتداء (خلي بصرك فوق .. يا اخي الكريم) ثم قلت له واقول، ولعل كثيرون من القراء يعلمون أني لا اكتفي بالكتابة فقط عن هموم السودانيين في مصر، ولكنني اسعي سعيا حثيثا لدفع حلولها علي المستوي العام والخاص، رغم ما يسببه لي ذلك من حرج، ولا اود ان اذكر الخاص، فهي حقوق واجبة لاهلنا، ولكن قد يذكر بعض القراء الحملة التي قمت بها قبل فترة دعوة للرئيس السيسي تحت مسمي تصفير العداد للسودانيين في مصر، وكانت قد تراكمت الغرامات بالنسبة لهم بسبب تجاوز مدد الإقامة الممنوحة لهم، وفي واحد من الاجتماعات الرئاسية أشار سفير السودان انذاك السفير محمد إلياس لطلبنا بتصفير العداد، فاستجاب الرئيس السيسي علي الفور، فأرسل لي السفيران السوداني محمد إلياس، والمصري حسام عيسي رسائل من داخل الاجتماع يباركان لي فيها استجابة الرئيس السيسي لمناشدتي، ولما صدر القرار اتصل بي رئيس الجالية المرحوم الدكتور حسين محمد عثمان يبارك لي نجاح مساعينا لتصفير العداد، وكثيرا ما أقارن بين أوضاع السودانيين في مصر هذه الايام وبين اوضاعهم أيام دراستنا الجامعية فيها في سبعينيات القرن الماضي عندما قارب عددنا العشرين الفاً وكنا ندخل مصر ببطاقة وادي النيل وندفع رسوم دراسية خمسة جنيهات فقط للعام مثلثا مثل الطلاب المصريين، ونشاركهم السكن في المدن الجامعية بذات الرسوم خمسة جنيهات في الشهر للسكن والطعام والشراب، ولكنني انظر الي متغيرات الأوضاع هذه الايام بغير زاوية نظر بعض الأخوة الذين ينظرون الي بعض اشواك مصر ويعمون عن النظر للورد
فوق شجرتها الوارفة إكليلا.
وما يدعوني لهذا النظر جملة أشياء في مقدمتها، أني انظر الي الامام ولا اشغل نفسي كثيرا بما تحت القدمين، وما أراه بعيدا ان خيارنا الوحيد في السودان ومصر ان نصير الي تكامل حد الوحدة، ولو يستوعب الناس ما اري، فالوحدة هي السقف الأمثل.
السبب الثاني ان مصر استوعبت خلال عامي الحرب الماضيين اكثر من مليون سوداني، ولا توجد دولة واحدة في العالم كله قريبه او بعيده استقبلت ١٪ من العدد الذي استوعبته مصر.
السبب الثالث ان مصر عندما اندلعت حرب المليشيا الغادرة فتحت أراضيها دون قيد او شرط، فألغت شرط التأشيرة لكل الأعمار، وسمحت بالدخول بجوازات سفر منتهية الصلاحية، وبوثائق سفر اضطرارية، ولم توقف ذلك إلا بعد ظهور حالات تزوير كثيرة، وفعلت ذلك حفظا لأمنها وأمانها وليس تضييقا علي السودانيين الفارين من جحيم الحرب، كما يزعم بعض المغالين.
سبب رابع ان مصر سمحت بانسياب كل الاحتياجات الضرورية للسودان دون قيد او شرط، بما في ذلك المواد الغذائية الاستراتيجية مثل الدقيق والسكر.
سبب خامس ان مصر تعيش أوضاعا اقتصادية استثنائية بسبب النهضة الشاملة التي يقودها الرئيس السيسي، التي تستهدف تهيئة الأجواء لحياة كريمة لأجيال لم تولد بعد.
سبب سادس مهم جدا، ولعله اهم من كل ما ذكرت وهو ان مصر تتولي تقديم موقفنا القوي الثابت اقليميا وعالميا، ابتداء من خطاب وزير خارجيتها السابق السيد سامح شكري في أول اجتماع لجامعة الدول العربية بعد الحرب، والذي اعلن فيه ان مشكلة السودان مشكلة داخلية يحلها السودانيون وحدهم ولا يجوز لأي جهة خارجية التدخل لفرض حلول علي أهله، واكد علي سيادة الدولة وسيادة مؤسساتها، وان الجيش الوطني هو الجيش الوحيد المعترف به، وهي ذات المعاني التي ركز عليها مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة في خطابه الأخير قبل أيام والذي خصصه كله للمسألة السودانية.
ومع ذلك ندعو الحكومة المصرية الي نظرة اكثر خصوصية لقضايا السودان والسودانيين هذه الأيام، ليس لخصوصية العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين، وإنما لخصوصية الأوضاع في السودان بسبب الحرب، فمثلا الرسوم الدراسية الجامعية التي فرضت علي السودانيين اخيرا فوق طاقاتهم، فيجب مراجعتها، وباعجل ما تيسر، اما اوضاع المدارس السودانية في مصر، فمطلوب تخفيف شروط ضوابط المدارس في مصر بالنسبة للسودانيين الي حين انتهاء الحرب فقط وعودة النازحين الي ديارهم، اما الذي يريد الاستمرار بعد ذلك فعليه الالتزام بشروط وزارة التربية والتعليم المصرية.
موضوع التأشيرة والإقامة يحتاج ايضاً الي مراجعات للحد الذي لا يضر بأمن وامان مصر، لا سيما بالنسبة للحالات الخاصة خصوصا الحالات المرضية،
ولا بد ان نشير هنا الي الجهود العظيمة التي يقوم بها وزير الخارجية السوداني الدكتور علي يوسف الشريف والتي تسير في اكثر من اتجاه، اولاً الحلول العاجلة للمشكلات القائمة ، والتأسيس لعلاقات مستقبلية راسخة، وبينهما قيادة مصر لمشروع اعادة بناء وتعمير السودان، ويجد في كل ذلك استجابة وتجاوب كبير من كل المسؤولين المصرية، وهناك اشادة مهمة مستحقة لسفير مصر في السودان معالي السفير فوق فوق العادة السفير الفخيم هاني صلاح الذي يجعل كثيرا من العسير يسيرا، واقول غصبا عنه، وعن القنصل العام احمد يوسف، شكرا مصر، وشكرا لكما، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والشكر لله من قبل ومن بعد.