
« الموت بامراض القرن التاسع عشر»
روشتة في بريد الاسرة
اخصائي الصحة/ اسماء قسم الله
في ولاية الخرطوم يتجسد الانهيار الصحي أقصي صوره فلم يعد الأمر مقتصراً على نقص الموارد، بل أصبح انهياراً بنيوياً شاملاً حيث تضرر ما يقارب 90% من المستشفيات الخاصة، وتوقفت خدمات التحصين والتغذية الأساسية بشكل كبير هذه الأرقام المخيفة تترجم إلى مأساة حقيقية؛ ففي الجريف شرق الخرطوم، على سبيل المثال، تم رصد حالات إصابة ووفيات بالدفتريا بين الأطفال،هذا يؤكد أن أمراض القرن التاسع عشر لا تجد موطئ قدم لها في مناطق النزوح فحسب، بل في قلب العاصمة نفسها، هذا التدهور يعني أن الأطفال المتبقين في الخرطوم أو النازحين إليها، يواجهون بيئة صحية خالية من أي شبكة أمان، حيث تحول الوصول إلى مجرد جرعة لقاح أو علاج مضاد حيوي بسيط إلى رفاهية شبه مستحيلة. فالرعاية الصحية لم تعد متهالكة، بل أصبحت منعدمة، ما يضاعف قدرة الموت بأمراض القرن التاسع عشر لقد تعودنا ان أمراض مثل الدفتريا والسعال الديكي (الشاهوق) فصولاً من التاريخ الطبي البائد، لكنها عادت اليوم لتتصدر نشرات الأخبار، حاملة معها شهادة وفاة للرعاية الصحية، إن عودة هذه الأوبئة — التي يمكن منعها بجرعات بسيطة من لقاح — ليست مجرد تفشٍ موسمي؛ إنها إعلان صارخ عن الانهيار التام للنظام الصحي وتحويل مخيمات النازحين المكتظة إلى بؤر للكارثة.
بوابة العودة للماضي إن هذه الأمراض، التي تعود إلى قرون سابقة، تُعد مؤشراً مباشراً على انهيار البنى التحتية الوقائية. ففي ظل الظروف المستقرة، يتم حماية المجتمع بما يُعرف بـ”مناعة القطيع”، والتي تتحقق بفضل برامج التلقيح الروتينية الشاملة.
لكن في مناطق النزاع والانهيار، تتوقف سلاسل التوريد والخدمات اللوجستية، و تتوقف معها حملات التحصين، تدمير المرافق الصحية ونزوح الكوادر الطبية يعنيان أن الأطفال الذين يُولدون اليوم لا يحصلون على أبسط أشكال الحماية فعندما يتفكك النظام الصحي يصبح المرض القديم قاتلاً جديداً، لا سيما أن الفيروسات والبكتيريا المسببة للدفتريا، السعال الديكي تجد في الفوضى ملاذها الأمثل، المخيمات أرض الوباء الخصبة أشد المتضررين من هذا النكوص هي الفئة الأكثر ضعفاً هذه المعسكرات، التي أُنشئت في الأصل لتكون ملاذاً آمناً مؤقتاً، تتحول بفعل الانهيار الصحي إلى بيئة مثالية لانتشار أمراض القرن التاسع عشر بسرعة البرق، لعدة أسباب متداخلة منها الكثافة العالية، التي تضمن انتقال العدوى عبر الرذاذ بسهولة فائقة، وسوء التغذية الحاد الذي يضعف جهاز الأطفال المناعي، ونقص النظافة وغياب الصرف الصحي، مما يضاعف عوامل الخطر إن الطفل النازح الذي يفقد حقه في المأوى، يجد نفسه اليوم يفقد حقه الأساسي في الحياة بسبب عدوى كان يمكن منعها بلقاح بسيط
ما يؤكد أن أمراض القرن التاسع عشر لا تجد موطئ قدم لها في مناطق النزوح فحسب، بل في قلب العاصمة نفسها. هذا التدهور يعني أن الأطفال المتبقين في الخرطوم أو النازحين إليها، يواجهون بيئة صحية خالية من أي شبكة أمان، حيث تحول الوصول إلى مجرد جرعة لقاح أو علاج مضاد حيوي بسيط إلى رفاهية شبه مستحيلة.
الدفتريا والسعال الديكي.. أعراض لا تُحتمل ليست عودة المرض هي الكارثة ، بل طبيعة هذه الأمراض نفسها. فالدفتريا، على سبيل المثال، تفرز سماً قوياً يمكن أن يؤدي إلى فشل القلب والجهاز العصبي، ما يجعلها قاتلة في غياب الرعاية الطبية المكثفة. أما السعال الديكي فيسبب نوبات سعال عنيفة قد تمنع الأطفال الرضع من التنفس بشكل طبيعي تؤدي إلى مضاعفات عصبية خطيرة. وفي بيئة المخيمات والمناطق المتضررة بالخرطوم، حيث لا توجد( أسرة عناية مركزة أو حتى أكسجين كافٍ) ، فإن هذه الأعراض البسيطة تتحول إلى الحكم بالإعدام.
إن الموت بأمراض القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين هو شهادة إدانة جماعية، إن تفشي الدفتريا والسعال الديكي ليس مجرد مشكلة محلية للنازحين، بل هو إنذار بأن الفشل الصحي في أي مكان يهدد الأمن الصحي في كل مكان، و لمواجهة هذه الكارثة، يجب أن تتحرك الجهود الدولية والمحلية أولاً بإطلاق حملات تحصين عاجلة وموسعة لجميع الأطفال النازحين لترميم الجدار المناعي المنهار. ثانياً، توفير الدعم لإعادة تأهيل المرافق الصحية المتضررة لتتمكن من تقديم الرعاية الأولية. يجب أن ندرك أن جدار الوقاية هو الجدار الأخير الباقي، وإذا ما سقط تحت وطأة أمراض الماضي، فإن المستقبل سيكون مظلماً لأجيال بأكملها.
نواصل…..
ودمتم بصحه وعافيه