الأعمدةشيئ للوطن

بوصلة الفكر: مراكز الدراسات ودعم التلاحم المصري-السوداني في زمن الأزمة

شئ للوطن
م.صلاح غريبة
Ghariba2013@gmail.com

شرفت مؤخرًا بمتابعة ورشة عمل نوعية نظمها مركز مسارات للدراسات الاستراتيجية، حول “دور مراكز الفكر في دعم العلاقات المصرية السودانية ودعم الدولة السودانية في هذا التوقيت الحرج”. كان اللقاء مثريًا، جمع نخبة من قادة الرأي والأكاديميين السودانيين والمصريين، مؤكدًا على أن الأزمات الكبرى تتطلب عقولًا تجمع ولا تفرق، وتستشرف الحلول لا تكتفي برصد المشكلات. إنّ هذا التوقيت الحرج الذي يمر به السودان، يضع على عاتق المؤسسات الفكرية والثقافية والإعلامية في البلدين مسؤولية تاريخية لا يمكن التغاضي عنها.
تعد مراكز الفكر والدراسات الاستراتيجية هي بوصلة صناع القرار، لا سيما في أوقات التعقيد السياسي والأمني. بالنسبة للعلاقات المصرية-السودانية، يتجاوز دور هذه المراكز مجرد التحليل الأكاديمي ليشمل بناء جسور الفهم العميق والعمل على تفكيك الطبقات المعقدة للأزمة السودانية، وتقديم تحليلات معمقة ومحايدة للقيادات في مصر والسودان والمجتمع الدولي. يجب أن تنتج هذه المراكز “أوراق سياسات” (Policy Papers) عملية تركز على سبل دعم الدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية، بعيداً عن الاستقطاب السياسي الداخلي.
صياغة رؤى مستقبلية مشتركة بالتركيز على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للعلاقات، مثل مشاريع التكامل المشترك في مجالات الزراعة والمياه والطاقة، وتقديم خطط للتعافي الاقتصادي ما بعد الحرب. هذا يخلق مصلحة وجودية مشتركة تتجاوز الأزمة الحالية، بجانب توفير منصات للحوار الهادئ وإقامة قنوات اتصال دائمة بين النخب السودانية المختلفة (سياسيين، عسكريين، مجتمع مدني) والمؤسسات المصرية، لتسهيل التفاهم والوصول إلى أرضية مشتركة، وإدارة الخلافات المحتملة بعيداً عن الضجيج الإعلامي.
المثقفون، من أكاديميين وكتاب وفنانين، هم حراس الذاكرة المشتركة التي تربط وادي النيل. في لحظة انفجار الصراع، يصبح دورهم مقاومة خطاب الكراهية والفتنة، والتركيز على الوشائج الثقافية والتاريخية العميقة، ومواجهة التجهيل فيجب على المثقفين المصريين والسودانيين التعاون لكتابة ونشر مواد (مقالات، كتب، فيديوهات توضيحية) تسلط الضوء على الوحدة التاريخية والجغرافية لشعبي وادي النيل. عليهم أن يستعيدوا سير شخصيات تاريخية مشتركة ويؤكدون على أن مصير البلدين واحد.
تشكيل الوعي المدني بالعمل على دعم قضايا النازحين واللاجئين السودانيين في مصر، وإدماجهم وتوفير الدعم المعرفي لهم. في المقابل، يجب على المثقف السوداني أن يرفع صوته من أجل الوحدة الوطنية السودانية ورفض التقسيم أو التفتيت. المثقف هو صوت العقل الذي يرفض الانزلاق إلى مستنقع العنف القبلي أو الجهوي.
الإعلام في أوقات الأزمات يمكن أن يكون إما أداة بناء أو معول هدم. لقد أثبتت التجربة أن خطاباً إعلامياً غير مسؤول يمكن أن يعمق الشقاق ويزيد من حدة الاستقطاب. لذا، يجب على الإعلاميين في مصر والسودان الالتزام بـالاحترافية والموضوعية والابتعاد عن نشر الشائعات أو تبني خطابات تحريضية تحسب على طرف دون آخر في الصراع السوداني الداخلي. يجب أن يكون الإعلام المصري صوتاً للدولة السودانية (كمفهوم مؤسساتي) وليس لطرف في النزاع.
تسليط الضوء على الجانب الإنساني والتركيز على قصص الصمود السوداني، وتوثيق جهود الإغاثة والمساعدات التي تقدمها مصر. هذا النوع من التغطية يبني رأس مال اجتماعي وعاطفي بين الشعبين، بجانب إطلاق مبادرات إعلامية مشتركة وتنظيم ندوات وبرامج حوارية مشتركة تستضيف محللين وخبراء من كلا البلدين، لتقديم رؤى متوازنة تخدم الهدف الأسمى: استقرار السودان.
إن العلاقة بين مصر والسودان هي علاقة الجناحين لنفس الطائر؛ لا يمكن لأحدهما أن يطير بمفرده. ورشة العمل التي تشرفت بحضورها كانت بمثابة تذكير بضرورة تفعيل دور الفكر المدروس والكلمة المسؤولة لمواجهة الأزمة. ففي حين تطلق المدافع نيرانها، يجب أن يطلق المثقفون والباحثون صيحات العقل والحكمة.
الخلاصة: إن دعم الدولة السودانية واستقرارها هو مصلحة قومية عليا لمصر. ولن يتم ذلك إلا عبر استثمار حقيقي في القوة الناعمة؛ مراكز فكر تحلل بعمق، ومثقفون يحيون الذاكرة المشتركة، وإعلاميون يلتزمون بميثاق الشرف المهني.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى