مقالات

جفّ الرهيد، وناحت قمارينا

واو الجماعة

 عوض أحمدان

رأيت، أن يكون مقالي عن رحيل

الدكتور عبد القادر سالم عبد القادر، بعد مرور أيام من رحيله، حتي تجف المآقي، وتفيق النفوس من هول الفاجعة، التي أصابت الجميع، وأورثت الافئدة حزناً ، يكاد يذهب بنياط القلوب، التي تربع الراحل في سويدائها، فناناً وإنساناً،استطاع أن يجبر الآخرين علي إحترامه، لأنه أحترم نفسه وفنه وتاريخه، فكسب التقدير، في كل مكان وطأته قدماه… رحل الدكتور عبد القادر، بذات الكيفية التي يرحل بها كل كائن محبوب، تفاقمت عليه العلل، التي سكنت جسده، فما ضعف إيمانه ولا هانت عزيمته، إستجار بصبره المعهود، يؤدي دوره المشهود، رغم وخزات الألم، ووطأة السٍقام ، ليلاقي ربه، صابراً ومحتسباً، في ذات الشهر الذي رحل فيه صديقه، الفنان محمد ميرغني قبل عامين… لم يكن عبد القادر سالم فناناً فحسب، كان مشروعاً كبيراً، قوامه الأدب والثقافة والفن والتراث، الذي تعلق به، منذ سنواته الباكرة، بعد ميلاده في ١٩٤٦م، بمدينة الدلنج، عروس الجبال في جنوب كردفان،طالما حدثني عن سحرها وجمالها، الأخ ، الفاتح أبوعلي، الذي شهد صرخته الأولي، في (ابوجبيهة)، إنطلق بعدها، يجوب المدن والحواري والفرقان،مفتوناُ بسحر الطبيعة، التي خلبت الألباب، والهمت المشاعر، فكان من الطبيعي، أن يتأثر بذلك، الفنان الراحل، ذائع الصيت، الذي عمّت شهرته الأرجاء، وتمددت سيرته بين الناس إعجاباً، داخل السودان وخارجه….. بدأ ، عبد القادر حياته معلماً، يساهم بعلمه في بناء العقول، مثلما تخصص لاحقاً، في غزو الدواخل، وإحتلال مكامن الإعجاب، بفنه الهادف، واسلوبه الراقي وصوته الجميل، الذي حمل علي أجنحته، أيقاعات المنطقة المتنوعة، من المردوم، والكاتم والجراري والكِرن، وغيرها من ثراء كردفان الثقافي، ومخزونها التراثي، الذي تخطي الواقع المحلي، ليصل الي مقامات ، الأبعاد الإقليمية والدولية،التي طرق أبوابها عبد القادر، ليزرع، للأغنية السودانية، أرضاً جديدةً، بين شعوب العالم….. أنتمي (ليمون بارا)، في بداياته في الستينات، الي فرقة فنون كردفان، التي ضمت، جمعه جابر، ومحمداني مدني، وغيرهما من الموسيقيين، إشتهرت الفرقة وقتها(بتفريخ) النجوم، كان تأثيرها واضحاً في كل فناني كردفان، صديق عباس، ابراهيم موسي أبا، عبد الرحمن عبدالله، عبد القادر سالم، عبد الله الكردفاني، زينب خليفة، أم بلينة السنوسي، فاطمة عيسي، وغيرهم، من الذين أدركوا إسمها، ووقفوا علي دورها، حتي لو لم تسعفهم الظروف بالإنضمام إليها….يري الكثيرون، أن فنانِي كردفان، كان لهم القدح المُعلّي، في نشر الأغنية الكردفانية،

عبر الإذاعة السودانية، كانت وسيلتهم الأولي، رسالة كردفان الاسبوعية، التي إضطلع بها،(إعداداً وتقديماً) الاذاعي الكبير المرحوم، عوض محمداني مصطفي، كان عبد القادر، من تلك الكوكبة التي أضاءت الطريق لناشئة الفنانين، دخل الإذاعة، وفي جُعبتِه ألواناً من تراث وإيقاعات المنطقة، تعاون في مشواره الطويل، مع عدد من الشعراء، عبد الله الكاظم، يوسف حسب الدائم، فضيلي جماع، محمد مريخه، عبد الجبار عبد الرحمن، مصطفي عوض الله بشارة، د عوض إبراهيم عوض، وغيرهم،،فكانت أغنياته ، اللوري حلّ بي ، وكلم قمارينا، وبسامة، وجف الرهيد، وليمون بارا، وقدريشنه،وعابر سكة فايت وغيرها، فتحاً جديداً، ولوناً مغايراً، لما ألفه وإعتاد عليه عشاق الطرب، تصّدرت أغنياته، الطلبات المُلِحة ، في برنامج الإذاعة الأسبوعي(ما يطلبه المستمعون)….كان يتملكه دون غيره، طموحا غير محدود، تتوق نفسه للبحث عن الجديد، كتب العديد من المقالات، عن الموسيقي والتراث في الصحف والمجلات، وقدم عبر الإذاعة برنامجه الموسيقي(دو،ري،مي) لعدد من الدورات الإذاعية، وعندما سلك طريق الدراسات العليا، لم يهدأ له بال، حتي نال درجة الدكتوراه في الموسيقي، ليتوج كفاحه في البحث والتقصي، بأعلي الدرجات العلمية الرفيعة، التي لم تزده، إلا قرباً وتواضعاً من غِمار الناس..

إنصب حصره، علي دعم المواهب وتشجيعهم،يذكر المتابعون، تجربته الناجحة مع الفنانه(المعتزلة) أنعام صالح، في آخر مهرجانات الثقافة التي كانت تنتظم البلاد، خلال الحقبة المايوية، حيث شاركت في إحدي ليالي الواعدين، بأغنية(عابر سكة ولا جيت قاصد تزورنا)، التي كتبها، الشاعر الراحل عبد الله شرفي، فلما هجرت الفنانة الواعدة سوح الغناء نهائيا، آلت الأغنية الي ملحنها عبد القادر سالم، وأصبحت من أشهر أغنياته التي يرددها…..تقلد عبد القادر سالم، مسؤولية إتحاد الفنانين عدة مرات، يسبقها إجماعٌ تام علي تقدمه الصفوف، (بتزكية) أعضاء الإتحاد، كانت تتوفر فيه شروط القيادة، وأهلية تبوء المناصب، كان حريصاً علي خدمة منسوبي الإتحاد بالتفاني والجدية والإخلاص، (عميداً) يعيد للأذهان ، أيام (العميد) أحمد المصطفي، الذي حمل راية (العمادة) بعد الحاج محمد احمدسرور، الذي رحل في ١٣/٦/١٩٤٦م، بعد رحيل(العميد) أحمد المصطفي، في ٣٠، اكتوبر عام ١٩٩٩م، تعاقب علي إدارة الإتحاد، عدد من الفنانين، من بينهم د عبد القادر، الذي أدي المهمة، وأوفي مطلوبات التكليف، علي أكمل الوجوه، حتي تسليمه (التركة) بحملها الثقيل، لخلفه، وساعده الأيمن، الفنان الكبير، نجم الدين الفاضل، (الرئيس الحالي)، الذي قطعت الحرب آماله، ووقفت حائلاً، دون رؤيتة الواضحة، التي كان يسعي جاهداً الي تحقيقها، لخدمة الإتحاد وأعضائه، فقد تسابقت خطواته، قبل الحرب بأيام، بالحرص وملاحقتنا، في وزارة الثقافة والإعلام والسياحة بولاية الخرطوم،بتنفيذ عدد من الشراكات،بين (الوزارة والإتحاد)، أثمرت جملة من البرامج، والندوات، والأغاني الوطنية، التي تدعو الي التماسك ووحدة الصفوف، بعيداً عن التعنصر والجهوية،التي إرتفعت(للأسف) وتيرتها بعد الحرب، بشكل مخيف، الي جانب، مساعي نجم الدين المتواصلة لمعالجة بعض الحالات الإنسانية، التي يوليها، كل إهتمامه، إقتداءًا بما كان يفعله عبد القادر سالم…

رغم ما خلفته الحرب المفروضة، من جراح عميقة في جسد الوطن العزيز، جعلت أبناءه يهيمون علي وجوههم، تجوالاً داخل المدن الآمنة، وهجرةً الي المنافي البعيدة خارج الحدود، بدأت الآن رحلات العودة العكسية، بعد أن بسطت القوات المسلحة ومعاونوها، ألوية الأمان في كثير من المناطق، التي كانت مرتعاً تسيطر عليه جحافل الدمار، رغم ذلك كله، ظل د عبد القادر سالم، شديد الارتباط بامدرمان، التي أحبها وعاش فيها، ولم يغادرها، إلا لماماً، بغرض العلاج، حتي إرتحل الي الدار العامرة، بمدافن حمد النيل، مجاوراً عدداً من زملائه الذين سبقوه بالرحيل، الفلاتية، عبد الدافع عثمان، إبراهيم إدريس(ود المقرن)، عبد العزيز المبارك، محمد عبد الله محمدية، محمد الحسن سمير، إبراهيم حسين، حواء الطقطاقة، نادر خضر، علي مصطفي (الدكشنري)، وغيرهم….. بعد رحيله المؤلم، وفراقه الموجع، تباري الكل في رثائه،بكلمات تعبر عن فداحة الخطب، ولوعة الرحيل،استوقفني نعي كتبه، الأديب السفير الدكتور عبد المحمود عبد الحليم، الذي تجمعه الوشائج القوية، بفرسان النغم، وأرباب القلم، وألسنة الثقافة، شقّ عليه فراق عبد القادر، فنثر عِقِداً ، من جواهر أغنياته، يطوّق به عنقه، غداة سفره الطويل، في رحلةٍ أبدية، لا عودة بعدها، استأذن المفجوع السفير، أن أجعلها خاتمةً لهذه السطور……

(( لا خير فى الدنيا.. “معدودة أيامها”

 

الموت يكذب هذه المرة فأشجار التبلدى لا تموت والتبلدية عبد القادر سالم نعرف علته ومرضه فهو “أسير غزال فوق القويز”.. “ومكتول هواك يا كردفان”.. وهو فى انتظار رد سؤاله للمحبوبة؛ “إنت عابر سكة فايت وللا جيت قاصد تزورنا.. ألف مرحب بيك حبيبنا يا الدوام فى الظلمة نورنا” وقد التمس أن نكلم “قمارينا ودى السلام لينا قول ليها ما نسينا”.. وربما حل “اللورى” بعبد القادر “فى الوديي” بحثاً عن “ليمون بارا” فأعطب ما يحدث حولها حالياً قلبه الكبير لكنه يعلم فى ترنمه “للبسامة الفايح نساما” أن لأخير فى الدنيا.. “معدودة أياما”.. فلتغشاك الرحمة والمغفرة ويتغمدك المولى بواسع رحمته ويجزيك مضاعفاً بقدر إمتاعك لسنوات عمرنا.. فقد فجعنا رحيلك.))…

في القاهرة التي زارها الراحل كثيراً، توافد المعزون، الي بيت السودان ، بالقاهرة، الكل يبكي عبد القادر علي طريقته، آثرت، وزميلي عبد العزيز ابراهيم الطاهر، (تعزية) أهل الأبيض من الحاضرين بصورة خاصة، لمكانة (اب قبة) في نفس الراحل، فكانت لحظات المواساة، مع الباحث المعروف، خالد الشيخ، الذي طفق يحدثنا، حديث العارف عن بعض الجوانب الخفية من حياة عبد القادر سالم، الرياضي المطبوع، الذي لعب حارساً للمرمي بفريق الشاطي بالأبيض، ردحاً من السنوات….اللهم ارحمه ، واعفو عنه، واجبر كسر البلاد، في فقده، والهمنا جميعاً، عِبرة الموت، الذي نحمله علي اكتافنا، لاندري كنهه، أو نعرف أوانه….

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى