مقالات

حين تُوحِّد المأساة الوطن

 

بقلم :بكري يوسف البُر

في أزمنة الانكسار الوطني، يتكشف معدن الشعوب في غربتها أكثر مما يتجلى في وطنها. فحين تتصدع الأرض تحت الأقدام وتتهاوى مؤسسات الدولة، يصبح الاغتراب امتحاناً للانتماء، ومجالاً لظهور ضميرٍ جمعيٍ أكثر صفاءً من كل شعارات السياسة.

هكذا بدا المشهد اليوم بين السودانيين في الخارج في كل نواحي المعمورة، حيث تشكّلت حالة وجدانية غير مسبوقة سمت فوق الخلافات التي أنهكت السودان لعقود.

ما يلفت في هذه اللحظة التاريخية هو أن السودانيين في المهجر لم يتحركوا وفق أجندات حزبية أو ولاءات جهوية، إنما من منطلق الخوف الصادق على وطن يتداعى. مشاعر القلق والحسرة تحوّلت إلى طاقة تضامن ووعي وطني متجدد، كأنما المأساة وحدها كانت الكفيلة بأن تذكّر الجميع بأن الوطن أكبر من الجميع.

من أوروبا إلى الخليج، ومن أميركا إلى أستراليا، يتكرر المشهد ذاته: مبادرات إنسانية، حملات دعم، ونداءات لإيقاف الحرب. المهاجر السوداني اليوم لم يعد متفرجاً يرمي الاوم، فصار فاعلاً في المشهد الوطني بوعيه وحنينه. لقد وحّدت الغربة ما فرّقته السياسة، وأصبح السودانيون في الخارج أكثر إحساساً بالمسؤولية تجاه وطنهم، وأكثر وعياً بخطورة الانهيار الكامل الذي يتهدد الدولة والمجتمع معاً. و حتما يشعر المهاجر السوداني دوما بما خطة الطيب صالح:
عندما تركت قريتي و سافرت الي لندن، لم احس إطلاقاً بالراحة النفسية التي كنت احس بها في قريتي، كلما تقدم لي العمر و إطلعت و سافرت، اكتشف الي أي حد تصل اهمية تلك البيئة.

و كما يقول ابن عربي “الناس نفوس الدينار”.

نتذكر قصة ذلك السوداني بباريس الذي سأل صلاح احمد ابراهيم عما يريد من السودان عند عودته في زيارة خاطفة له للخرطوم، و كان طلب صلاح (زجاجة ماء من النيل)، و عند مغادرة ذلك الشخص مطار الخرطوم استوقفة ضابط الجمارك و سأله عن محتوي ما في الزجاجة، فحكي له طلب صلاح، و جلس ضابط الجمارك علي الأرض و قال للمسافر ‘لو كان الامر بيدي لارسلت له النيل كله’، و ذلك كل شعور مهاجرينا و وددنا ان نرسل لهم النيل كله.

هذه الروح المتقدة تحتاج إلى جسرٍ رسمي ومؤسسي يربطها بالوطن. فالمغتربون السودانيون يمثلون طاقة اقتصادية وفكرية هائلة، ينبغي ألا تُترك بلا إطار منظم.
من الضروري أن تُولي الدولة عناية خاصة بهم، من خلال إرسال وفود استثمارية متخصصة لربطهم بالفرص داخل السودان، وتشجيعهم على إنشاء مشاريع استثمارية تعود بالنفع عليهم وعلى مجتمعاتهم المحلية، وتفتح أبواب العمل والتنمية في الداخل.

كما ينبغي تسهيل تحويل أموالهم عبر القنوات المصرفية الرسمية، بطرق سريعة وآمنة، تضمن رفد الاقتصاد الوطني بمورد ثابت ومستدام، وتحفّز على الثقة المتبادلة بين المهاجر والدولة. وفي الجانب المعنوي، يمكن إنشاء مجالس استشارية للمغتربين تتيح لهم إبداء آرائهم حول قضايا الوطن والمشاركة بخبراتهم في صياغة الرؤى المستقبلية. فالمهاجر ليس عميلاً لدولة أجنبية، و لكنه سيظل سفيراً للهوية السودانية أينما حلّ.

نحث وزارة الخارجية و قنصلياتها الثقافية بالتعاونةمع وزارة الثقافة بعمل دوريات ثقافية تعزيز التعريف عن ثقافة المجتمعات السودانية المتعددة و تعزيز الشعور الوطني القومي الذي يجمعنا كشركاء في وطن واحد لنا كامل الحقوق و الواجبات، و بستحضرني هنا مجلة (الأضواء) التي كانت تصدر من سفارتنا بواشنطن في نهاية ثمانينات القرن الماضي و كان علي رأسها الاستاذ عثمان حسن احمد (الكد) عليه رحمه و رضاء من الله ، و كان لمحتوي تلك المجلة الاسبوعية الفضل في حبنا و شغفنا للدراسات السودانية التي تحكي عن عظمة و هيبة هذه الامة الخالدة المعطاءة، صاحب النظرة التوفيقية التعددية للامور بتعقيداتها، و حل تلك النقائض بالحكمة و التسامح السوداني (السمِح)٠

ولا يقتصر دور المهاجرين على الاستثمار والدعم الإنساني، و بجهد المخلصين يمتد إلى المجال السياسي والحقوقي أيضاً. فوجودهم في دول ديمقراطية يمنحهم منصات ضغط فعالة على ممثليهم في البرلمانات الأجنبية والمؤسسات الدولية، للمطالبة بالعدالة للشعب السوداني و قضاياه الكبري، وفضح الجرائم والانتهاكات، ودفع تلك الدول إلى اتخاذ مواقف منصفة تجاه ما يجري في السودان.
بهذه الطريقة، يصبح صوت المهاجر امتداداً لصوت من لا صوت لهم في الداخل، وأداة سلمية للدفاع عن قضايا الحرية والعدالة والكرامة الوطنية في المحافل الدولية.

ربما يمكن القول إن ما يجري بين السودانيين في الخارج هو الولادة الثانية للوطنية و القومية السودانية. المأساة الكبرى التي وحدت المختلفين على كلمةٍ واحدة، السودان أولاً.
وإذا ما أحسنّا إدارة هذه الروح واحتضانها ضمن رؤية اقتصادية وسياسية و ثقافية متكاملة، فسنكون أمام جيلٍ جديد من المهاجرين، جيلٍ يبني من الخارج ما تهدم في الداخل، ويُسمِع صوت الوطن في عواصم العالم.
إنها لحظة وعي ومسؤولية، تُعزز بالحب، وبالعمل، وبالإصرار على أن يظل السودان حاضراً مهما تباعدت المسافات، و ان لا يكونوا ك شرود الابل (الإبل المحبة للهروب و يصعب الامساك بها) و لكن ليكونوا صابرين يحملون علي ظهورهم و قلوبهم هموم الوطن و المواطن بنبل اصولهم و ثراء تاريخهم.

حبابو الفيهو ضُل الخير تملي يسُر
حباب أسد الكيوي فارس هلال الحُر
قدمُو تقيلة ثابت في المُحاص ما بِتُر
يوم كَبْسيّبة الخيل الجباهن قُر

نوفمبر ٢٠٢٥

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى