
ذكريات شخصية عن البروفسير محمد إبراهيم خليل 1-2
بقلم :فرانسيس مديينق دينق
عندما تلقيت نبأ وفاة البروفسير محمد إبراهيم خليل في 10 ديسمبر 2024، شعرت في الحال بمزيج من العواطف والافكار. وبطبيعة الحال، شعرت بحزن عميق لفقدان صديق وزميل عزيز، ولكني فكرت أيضا في الحياة الغنية التي عاشها، والمساهمات الهامة التي قدمها على الصعيدين الوطني والدولي، والعائلة المحبة التي تركها وراءه.
على المستوى الوطني، شغل البروفيسور محمد إبراهيم العديد من المناصب المهمة. أثناء وجوده في مكتب النائب العام، وجاضر في نفس الوقت في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم وأصبح فيما بعد أول عميد سوداني للكلية. من الناحية السياسية، شغل منصب المدعي العام وشغل حقائب وزير العدل ووزير الحكم المحلي ووزير الخارجية ورئيس الجمعية البرلمان القومي. كما شغل منصب رئيس مفوضية الاستفتاء التي أشرفت على استفتاء تقرير المصير الذي أدى إلى استقلال جنوب السودان في العام 2011.
على الصعيد الدولي، شغل منصب المستشار الخاص لصندوق النقد الدولي في الكويت وقام بتدريس القانون في جامعة أحمدو بيلو في زاريا بدولة نيجيريا. تقاعد في الولايات المتحدة حيث كان منتسبا كزميل رفيع في مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء، ثم كزميل في معهد السلام الأمريكي، ثم لاحقاً كعالم مقيم بمركز الشرق الأوسط في واشنطون.
في مقام التقدير هذا، سأركز ذكرياتي على علاقاتي الشخصية مع البروفيسور محمد إبراهيم خليل كاستاذ للقانون، ودوره في الإشراف على تقرير المصير في جنوب السودان، ووقتنا معا في واشنطن كزملاء وأصدقاء. هذه الرواية الشخصية، التي تتخللها الحكايات، هي محاولتي لتكريم صداقتنا دون الادعاء بتغطية النطاق الواسع لحياة البروفيسور محمد إبراهيم الشخصية والمهنية.
بصفتي محاضرا في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، فإن أكثر ما أثار إعجابي في البروفسيرمحمد إبراهيم خليل، بالإضافة إلى إجادته لمادة القانون التجاري الذي كان يدرسه، هو أنه كان دائما يرتدي ملابس أنيقة، مع موقف محترم تجاه طلابه، وهو جانب من جوانب التواضع والكرامة في سلوكه العام. وبسلوكه الهادئ، نال إعجابي واحترامي، وأنا متأكد من أن زملائي يشاركونني نفس وجهة النظر في معلمنا. بالنسبة لي شخصيا، قدم لي معروفا كبيرا غير حياتي وذلك من خلال الترتيب لي لمقابلة أفضل طبيب عيون في مستشفى العيون بجامعة الخرطوم الذي قام بتشخيصي بالجلوكوما التي عانيت منها لأكثر من خمس سنوات دون أن يتم اكتشافها، والتي ادت الى تحول كبير في تشكيل مسار حياتي، على الصعيدين الشخصي والمهني.
كان لتقديري للدور الذي لعبه في إدارة استفتاء جنوب السودان بموضوعية ومهنية أبعادا شخصية أيضا. كنت في زيارة للخرطوم من الولايات المتحدة حيث كنت آنذاك زميلا ومشاركا رفيعا في مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين. طلب مني البروفسيرمحمد إبراهيم خليل، رئيس البرلمان القومي آنذاك، مقابلته في مكتبه. لم يكن لدي أي فكرة عن الهدف من الاجتماع، لكنني شعرت بالفخر ازاء تلك الدعوة. في الاجتماع، لدهشتي، انتقد البروفسير محمد إبراهيم قيادة حزب الأمة الحاكم، الذي كان عضوا بارزا فيه، بسبب أجندتهم الإسلامية التي اعتبرها مثيرة للانقسام بشكل خطير بقدر ما تميز بوضوح ضد جنوب السودان بشكل عدائي. لقد ألمح لي أنه يخطط للاستقالة من منصبه كرئيس للبرلمان وأنه يبحث عن فرص في مؤسسة بحثية بالولايات المتحدة. وقد وعدته بفعل ما بوسعي للمساعدة.
خلال الفترة التي قضاها في واشنطن، عندما كنت في معهد بروكينغز، تطورت صداقتنا وتعمقت. كنا نلتقي لتناول طعام الغداء والعشاء بانتظام. كما نمت عائلاتنا بالقرب من بعضها البعض. لقد تبادلنا وجهات النظر حول التطورات في الوطن. وشاركنا في مجموعات النقاش وشاركنا في تأليف أوراق حول الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. أصبحت مقتنعا بما لا يدع مجالا للشك أنه بعيدا عن اعتقاد بعض السودانيين الجنوبيين بأنه يشارك أجندة الأسلمة التي يرفعها حزب الأمة، فإن آراء البروفيسور محمد إبراهيم كانت أقرب بكثير إلى الرؤية العلمانية للحركة الشعبية لتحرير السودان.
كشفت إحدى الحوادث أنه كان أقل تسامحا مع أجندة الإخوان المسلمين مما افترضه الكثير من الناس. نظم مركز كارتر في أتلانتا اجتماعا لجميع الأحزاب السياسية التي كان من المقرر أن يرأسها رئيس الأساقفة ديزموند توتو. طلب مني الرئيس كارتر أن ألقي خطابا رئيسيا. في طريقي إلى مركز كارتر، ركبت حافلة مع دبلوماسي أمريكي كان يحضر الاجتماع. سألني عن التطورات في السودان، وتحديدا الحرب المستعرة بين الشمال والجنوب. بعد أن أجبت على سؤاله ، سألني عما إذا كنت شماليا أم جنوبيا. أجبته بسؤاله عما إذا كان يعتقد، بناء على ما قلته، أنني شمالي أم جنوبي. كان رده أنه بناء على ما قلته، اعتقد أنني مسلم من جنوب السودان. ثم شرحت له أنني لست مسلما. ولم أكن شماليا أو جنوبيا طالما انني من منطقة أبيي الواقعة بين الشمال والجنوب.
عندما رويت هذه الحكاية في الاجتماع، تلقيت ردا انتقاديا من قادة المعارضة المناهضين للإسلاميين. كان البروفيسور محمد إبراهيم هو الأكثر وضوحا، وإن كان بلمسة من الفكاهة. قال إنني لم أتحدث كمسلم من الجنوب، كما اعتقد الدبلوماسي الأمريكي، بل كمسلم من إيران. كان هذا هو مدى رفضه لوجهة نظري الناعمة للأجندة الإسلامية للبلاد. بما أنني عرفت أنه لا يعني ما قاله، شعرت بالسرور، وكذلك الحال بالنسبة للآخرين الذين كانوا يعرفونني جميعا.
في وقت لاحق، وبينما كنت أعمل كوكيل للأمين العام للأمم المتحدة والمستشار الخاص للأمين العام المعني بمنع الإبادة الجماعية، وكان موعد الاستفتاء يقترب بسرعة، ذهبت إلى الخرطوم لإلقاء خطابا رئيسيا في ندوة نظمها مكتب الاعلام التابع لبعثة الأمم المتحدة بالخرطوم حول آفاق إنقاذ الوحدة الوطنية. كنت متردداً من البداية في قبول الدعوة، لأنني اعتقدت أن الأوان قد فات لإنقاذ وحدة البلاد. لكن زملائي في الأمم المتحدة حثوني على الحضور والتعبير بصراحة عن وجهات نظري حول الوضع. فقبلت في النهاية.
في الندوة، أعلنت أنني أعتقد أن الأوان قد فات لإنقاذ وحدة البلاد. ولكن إذا كانت هناك إرادة سياسية موحدة لإنقاذ وحدة البلاد، فيجب على قادة البلاد وجميع أصحاب المصلحة أن يسعوا إلى توسيع وتنفيذ الصيغة المتفق عليها سابقاً بين الشمال والجنوب وهي “دولة واحدة بنظامين”، إلى صيغة “دولة واحدة بأنظمة متعددة”. ومن شأن ذلك أن يمنح جميع مناطق البلاد، غرباً وشرقاً وأقصى الشمال، ومنطقتي النوبا والأنقسنا المجاورتين لجنوب السودان، نفس الحقوق الممنوحة للجنوب لحكم نفسه خلال الفترة الانتقالية السابقة للاستفتاء.
كان إطار عمل “دولة واحدة بنظامبن” نتاج لفريق العمل الذي شكله مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بتمويل من معهد الدراسات الأميركية، والذي شاركت في رئاسته، للمساهمة في تشكيل سياسة أمريكية موحدة ومتماسكة لإنهاء الحرب في السودان. وقد وجهت هذه الصيغة بالفعل الوساطة الأمريكية التي أسفرت عن اتفاق السلام الشامل.
يتبع