
ذكي العود
ليس من السهل أن أكتب عن أستاذي الزاكي جمعة يوسف. الكلمات، مهما بلغت أناقتها وصدقها، تضيق أمام سعة أثره في حياتي. كان رجلًا مختلفًا، معلّمًا بالمعنى الأصيل للكلمة؛ لا يكتفي بشرح الدرس أو التعليق على سطور كتاب، بل يفتح لك الأفق كله، ويعيد تشكيل وعيك بالوجود.
انتشلني من دروب الفشل، حيث كنت أترنّح بين الحيرة وضباب الطريق، إلى عوالم النجاح والانفتاح على المعرفة، وجعلني أتشبث بالثقافة كأنها الترياق الذي يحمي الإنسان من مدلهمات الحياة وتقلباتها. كان يردد لي: ” القراءة دي زادك في طريقك الطويل.” ومن يومها عرفت أن الكتاب ليس مجرد ورق، بل حياة كاملة. و ذكرتني قول الراوي في موسم الهجرة الي الشمال, ان للانسان أصل و معني و دور في الحياة:
(نظرت خلال النافذة إلي النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، انظر الي جزعها القوي المعتدل، و إلي عروقها الضاربة في الأرض، فأحس بالطمأنينة، أحس انني لست ريشة في مهب الريح، و لكنني مثل النخلة، مخلوق له أصل، له جذور و هدف).
كان أنيقًا في ملبسه كما هو أنيق في كلماته. لا تعرف أيهما يلفت النظر أكثر، وقاره في حضوره أم قدرته على صياغة جملة مشبعة بالمعنى والعذوبة. كان يملك ثقة بنفسه واعتزازًا بمقدراته، ثقة لا تحمل غرورًا بل تلهم من حوله بالثبات والإصرار. كنت أرى فيه نموذجًا لإنسان متوازن، يعرف قيمته، ويحترم ذاته، فيعلّمك من غير أن يرفع صوته أو يكثر من الوعظ.
أستاذي الزاكي كان مثقفًا رفيعًا، يمزج بين السياسة والرياضة والنشاط الاجتماعي بروح واحدة. يحدّثك عن التاريخ السوداني كأنه عاشه، و يذكرنا دائما من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه بتكرار اخطائه، اضئت مشاعل معرفة مبكرة و حدثتنا عن بندكت اندرسون و عن المجتمعات المتخيلة و نشوء القوميات بعد الحرب العالمية الثانية، و كيف اثرت مدرسة الابروفيين و الهاشماب (مدرسة الموردة) و كيف كان تأثيرهم في تكوين القومية السودانية الحديثة، ثم ينتقل إلى تحليل مباراة كرة قدم فيضيء لك ما لم تره، و حمل أستاذي الحبيب مسؤولية اتحاد كرة القدم فاضاف من ابداعاته مع جيل عملاقة رئيس الرؤوساء دقق، و الحاج عيسي، و ود المأمون، عوض محمداني، و كل رجالات العصر الذهبي.
ثم يفتح معك حديثًا عن قضايا المجتمع والسياسة بروح المصلح الباحث عن الحق. و دوما يخرج منتج قيمي لإثراء عوالم السياسة، و إن في كلماته معاني و دلالات تضيء الدروب المتشعبة.
لم يكن حبيس مجال واحد، بل كان واسع الأفق، وهذا ما جعل أثره يتسلل إلى كل جوانب حياتي.
كان يمدني دائمًا بكتابات أ. علي المك، يضعها في يدي ويقول: “أقرأ، ستعرف أن الكلمة زي المفتاح، بتفتح ليك أبواب جديدة.”. من خلال فكرة الثاقب عرفت الطيب صالح و موسم الهجرة الي الشمال، و رمزية ذلك الشمال الاستعماري الذي فجر براكين الغضب عند مصطفي سعيد، ضحية انشطار الشخصية، و من خلتلك عرفت كل شخصيات روايات الطيب صالح، الزين، محيميد، بندر شاه، مريود، بت مجذوب، عيدالحفيظ، محجوب، و الطريفي ود بكري، سعيد البوم (عشان البايتات لاحقا), فطومة، ابراهيم ود طه، الحنين، و ود الريس، نعمه، و حسنه بت محمود.
ويحثني على سماع محمد وردي، قائلًا: “الغُنا دا ما بس طرب، الغُنا دا وعي.” وهكذا فتحت لي كلماته أبوابًا جديدة للفن والفكر والجمال. وكنت أعود من جلساته وكأنني خرجت من محاضرة مفتوحة على الدنيا كلها.
كربة في النفس قد فرجتها
بكلام فيه للنفس شفاء
من خلال توعيته لنا عن الثقافة السودانية، عرفنا، سبحة اليسر، و الهلال و الضريرة و دلالات ذلك الارث، و العقد المفصل بالخرز، و التيلة و الشف و السوميت و الفدوة و السرتية و المجموع و الكركار و الودك، و عرفنا الركوة، و الدحلوب، و كل ما يرتبط بالبيئة السودانية و فلكلورة المدهش.
وقد علّمني أستاذي الزاكي معنى المغفرة وسعة الصدر. كان يستشهد أحيانًا بما قاله المتنبي:
“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا.”
ثم يضيف بابتسامته الهادئة: “لكننا نغفر، لأن الغفران قوة.”
(وَ لَمن صَبَرَ و غَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ)
الشوري ٤٣
وفي مرات أخرى كان يذكرني أن الحب الإنساني لا يكتمل إلا بالعفو.
لقد أثّر فيّ الزاكي تأثيرًا مباشرًا، وصاغ شخصيتي كما لو كان يعيد تشكيل الطين بيديه. غرس فيّ اليقين أن المعرفة ليست ترفًا، بل ضرورة، وأن الكتابة ليست مجرد حروف، بل مسؤولية تجاه نفسك وتجاه وطنك و الآخرين. علّمني أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يترك من أثر كومضات المصباح يُقسّم الاضداد علي الارجاء.
وها أنا اليوم، كلما أمسكت بالقلم أو دخلت في نقاش، أجد صوته الداخلي يرافقني، كأنني أسمعه يهمس: “خليك صادق، الكلمة ما بتكذب.”
رحم الله أستاذي، فقد كان مدرسة قائمة بذاتها. مدرسة في الأناقة والاعتداد بالنفس، في الحكمة والبذل، في العطاء بلا حدود. وما أكتبه اليوم ليس إلا شهادة وفاء واعتراف بالجميل، كلمة صادقة لرجل جعلني أؤمن أن المعلم الحق لا يرحل أبدًا، بل يبقى حيًّا فينا بما أورثنا من قيم ومعانٍ، و ستظل مساحات الود مخضرة فينا الي ان نلقاك سيدي النبيل (الزاكي).
بكري يوسف البُر
اغسطس ٢٠٢٥