مقالات

سِكَّة غير دربِك تَفَتِّر…. ودنيا غير دنياك تَوَدِّر

من أعلى المنصة

ياسر الفادني

 

أغنية (أحلى منك قايلة بلقى) تمثّل لوحة شعرية وموسيقية مكتملة الأركان، تتقاطع فيها البلاغة الشعرية مع الإبداع اللحني وأداء صوتي يحمل بصمة فنية سودانية أصيلة، كلمات عبد الرحمن مكاوي تأتي مشحونة بالدفء والعاطفة، تبدأ بعبارة بسيطة لكنها عميقة: (أحلى منك قايلة بلقى)؟ ، وهي صياغة تنضح بالصدق، حيث يحمل التعبير  إستعارة توحي بندرة المحبوب و إستحالته في الوجود، الجملة الثانية (ولا غيرك إنتي ببقى) تكرّس فكرة الاكتفاء العاطفي المطلق، وكأن العالم قد  أختُصر في هذا الحضور الإنساني الواحد في قوله (أنتي أفراحي البعيشها.. غير مكتوب لي أشقى) ، نلمح توازناً بين الفرح والقدر، إذ يجمع بين الأمل والإعتراف بحتمية الألم إن لم يكن الحبيب إلى جانبه، كذلك تأتي العبارة (سكة غير دربك تفتر ودنيا غير دنياك تودر) كتعبير مجازي بالغ القوة، يجعل من المحبوب محور الكون، فأي درب آخر( يفتر) ويبهت، وأي دنيا أخرى تتيه وتضيع!

الصور الشعرية في النص تقوم على مزج الطبيعة بالعاطفة، مثل قوله (غيمة والله عيونك إنتي ده الغريب في الصيف تخضر)، وهو قلب للمنطق الطبيعي حيث الغيم في الصيف ليس معتاداً، لكنها بعينيها تحقق المستحيل وتُخضرّ المواسم القاحلة، هذه الصورة تجعل العاطفة حالة تغيير كونية، وليست مجرد إحساس فردي، كذلك الجمل مثل (أودي في سيرتك وأجيبها وسيرتك إنتي علي حبيبة)!! تنبض بحميمية شعبية سودانية، تُظهر حميمية المخاطبة وقرب المحبوبة من القلب واللسان

اللحن الذي صاغه الموسيقار ناجي القدسي يوازن ببراعة بين رهافة الكلمات ونبض الإيقاع السوداني، يبدأ بتدرجات هادئة تتسع تدريجياً، ما يمنح المستمع شعوراً بالانسياب العاطفي، ثم تتصاعد الجملة اللحنية مع كلمات الذروة مثل (غيمة والله عيونك إنتي)، حيث يستخدم القدسي انتقالات مقامية تخلق دهشة صوتية تشبه دهشة الصورة الشعرية نفسها، هناك توظيف ذكي للإيقاع المميز الذي يزاوج بين (التمتم ) السوداني واللمسات الحديثة آنذاك، ما يجعل اللحن متجذراً وفي الوقت نفسه متجدداً

أما صوت حمد الريح، فهو العنصر الذي منح هذه القطعة خلودها، طبقاته الصوتية متوسطة المدى لكنها تتمتع بمرونة عالية، فيتنقّل بسهولة بين الخفوت الرقيق في بدايات الجمل وعلو النبرة في ذروات النص دون أن يفقد دفء النبرة أو وضوح المخارج، حمد الريح يغني وكأنه يحاور محبوبته همساً ثم يعلن حبّه جهراً، وهذا التلوين العاطفي في أدائه هو ما جعل الأغنية تدخل وجدان المستمع السوداني الذوّاق في زمن كان المستمع يقدّر الكلمة الرصينة واللحن المتقن، جاء صوته ليحمل العبارة الشعرية على بساط موسيقي محبوك، فيمتزج الشعر واللحن والصوت ليكوّنوا حالة وجدانية تلامس أعماق المستمع،

إني من منصتي…. أتذوق ….  عسل عبد الرحمن مكاوي  المنقي من ناجي القدسي المسكوب من حمد الريح  لأنه ليس مجرّد أغنية عاطفية، بل صار جزءاً من الذاكرة الجماعية، تُستعاد كلما إحتاج المستمع إلى صدق التعبير وصفاء الإحساس.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى