مقالات

ضبط الخطاب السياسي والإعلامي.. العشوائية لن تصمد طويلاً !!..

حاجب الدهشة

علم الدين عمر

في إحدى مباريات الزمن الكروي الجميل واجه نادي المريخ فريقاً عربياً كبيراً.. منضبط الصفوف.. يقوده مدرب عالمي.. ويلعب بخطة محسوبة..المفارقة أن المريخ بلياقة بدنية مرتفعة فقط عبر ما يمكن تسميته “السودنة الخالصة للعبة”..جر الخصم إلى مساحة الفوضى ثم سيطر عليها..وأنتصر..
المعلق العربي المذهول يومها قال «السودانيون جروا الفريق المنظم إلى العشوائية.. فهزموه!»..هذه القصة القديمة تعود اليوم بمعناها العميق ونحن نراقب المشهد السياسي والإعلامي في السودان.. فالدولة تبدو وكأنّها تسمح للعشوائية بأن تتسلل إلى خطابها العام..وتتلمظ بعض الإنتصار.. بينما المرحلة تتطلب أعلى درجات الإنضباط المؤسسي..
البلاد تعيش حرباً وجودية..وتتحرك وسط محيط إقليمي يموج بمحاولات تفكيك الدول وإعادة رسم الخرائط.. ومع ذلك ما يزال الخطاب الرسمي في كثير من الأحيان أسير الإنفعالات .. يخاطب الخارج بلغة الداخل.. ويعيد إنتاج الصراعات الإنصرافية..وكأن البلاد تملك ترف الوقت والهوامش..
الإشكال الأكبر لا يكمن في تعدد الأصوات..بل في غياب المرجعية الموحدة التي تضبط الرسالة وتُنسقها.. فتجد وزارة تعلن موقفاً..ومسؤولاً يقدم تفسيراً مغايراً..ومنصة إعلامية رسمية تتبنى سردية ثالثة..(ننضم بذلك لموجة السردية الرائجة هذه الأيام)..
هذه الفوضى الخطابية تمنح الخصوم فرصة ذهبية لتشويه صورة الدولة.. وتُربك الحلفاء..وتزرع الشك داخل المجتمع الدولي..بينما تحتاج البلاد ـ أكثر من أي وقت مضى ـ صوتاً واحداً محسوب الكلمة..قادر على تقديم موقف وطني متماسك..وواضح..
يدرك أن قوة الدولة ليست في مؤسساتها وحدها..بل في تماسك مجتمعها المتنوع.. السودان..بتعدد ثقافاته وقبائله وإثنياته..يمتلك قاعدة بشرية أوسع وأغنى من كثير من الدول في المنطقة..هذه التعددية ليست عبئاً كما يصورها البعض..هي مصدر قوة متزايدة طالما يوجد حدّ أدنى من الثوابت المتوافق عليها.. وحدة التراب.. سيادة الدولة..إحترام الجيش كمؤسسة قومية..ورفض المليشيات.. وإلتزام مشروع وطني جامع..
من هذا المجتمع تتولد الإرادة السياسية الحقيقية..فالدولة التي تستند إلى قاعدة مجتمعية واعية قادرة على إنتاج خطاب عقلاني..لا يتورط في الشطط.. ولا يسمح للفوضى أن تقود خطه العام..
حتى تنتصر البلاد في معركتها الوجودية.. يجب أن تتحول إدارة الخطاب إلى مؤسسة إستراتيجية بعيدة عن مساحة المزاج الفردي.. ويتطلب ذلك مركز وطني موحد للخطاب الإستراتيجي ينسق الرسائل ويضبط اللغة الرسمية..
وإعلام رسمي حديث يعمل بمنهج إحترافي.. يلتزم الدقة.. ويخاطب الداخل والخارج بلغة الدولة ومؤسساتها وقوميتها..
يقود خطاباً تعبوياً واعياً يرفع الروح الوطنية دون إنزلاق إلى التحريض حتي لا يتعرض لإختبار تغيير المواقف والعودة من منتصف الطريق..
عبر ظهور مسؤول محسوب مبني على خطة إتصال محددة ينقل الدولة لمركز الفعل حتي لا يتحول صوتها لردة فعل..
السودان اليوم أمام لحظة مفصلية.. إما أن يواصل جر نفسه إلى العشوائية ـ كما فعل المريخ بخصمه ثم تواصل تراجع مستوي الكرة السودانية حتي وصلت لما هي عليه الآن..وهذا سلوك خطير ـ وإما أن يعيد بناء خطابه السياسي والإعلامي وفق منطق الدولة الحديثة.. الإنضباط.. الرسالة الموحدة.. إحترام عقل المتلقي.. وتحصين الجبهة الداخلية..
القدرة على التحكم في الفوضى ليست بطولة.. بينما القدرة على تحويل المجتمع المتنوع إلى مصدر قوة وطنية..وصياغة خطاب يعكس هذه القوة.. هي الطريق الوحيد لنهوض الدولة وتجاوز العثرات..

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى